وصلتني القصة التالية من صديقي البحريني الكريم عزيز شكر، وهو شخصية لا تمل حديثها ومجالستها، ولا تشبع من حكاياتها وظرفها واطلاعها الواسع في شتى مناحي الحياة، وخاصة طبائع الشعوب.

أما القصة، فكانت:

Ad

طالب يدرس في إحدى الدول الأوروبية المتقدمة، ويسكن في غرفة بمنزل امرأة عمرها 67 سنة كانت معلمة قبل تقاعدها، وتتقاضى بعد التقاعد معاشاً مجزياً، إلا أنها تستمر بالعمل يومين في الأسبوع، وذلك برعاية مسن عمره 87 سنة في منزله.

أبدى الشاب دهشته وإعجابه بما تفعل السيدة، وسألها إن كان ذلك لكسب المال؟ فأجابت بالنفي، بل هي تعمل لكسب الوقت، فتودع لنفسها وقتاً في حسابها في "بنك الوقت"، أي أنها تودع الزمن لكي تستطيع الصرف منه عندما تحتاج له بعد تقدم سنها أكثر أو عندما تصاب بحادث وتحتاج لمن يساعدها!

أضافت السيدة أن حكومة بلادها أسست "بنك الوقت" كضمان اجتماعي إضافي للموظفين بعد التقاعد، حيث يفتح كل راغب في الاشتراك حساباً يحسب له الزمن الذي يقضيه في الخدمة الاجتماعية المجانية، خصوصاً خدمة المسنين والمرضى الذين لا يوجد لهم من يرعاهم أو يساعدهم، ليستفيد منه مستقبلاً من خلال وقت عميل آخر.

يشترط على المشترك أن يكون سليماً صحياً وقادراً على العطاء والتواصل مع الآخرين وتحمُّل المسؤولية، وراغباً في تقديم الخدمات بنفس راضية، وله أن يُودع المزيد من وقته، أو يكتفي بما أودعه وصرفه من وقت للخدمات الإنسانية التطوعية ويفسح المجال لغيره.

في أحد الأيام احتاجت تلك المرأة للمساعدة عندما سقطت أثناء تنظيف نافذتها وكُسر كاحل قدمها واضطرت للبقاء في السرير مدة طويلة، وأراد الطالب تقديم إجازة اضطرارية لمساعدتها، لكنها شكرته قائلة له إنها لا تريد إضاعة وقته الشخصي، لأنها قدمت على طلب سحب من رصيدها في "بنك الوقت"، وأنهم سيرسلون لها من يساعدها. وحضر المساعد الذي اختاره البنك ليرعاها ويتحدث معها ويرافقها ويقضي لها حاجياتها من خارج المنزل.

بعد أن تعافت تلك السيدة من الكسر عادت للعمل التطوعي مرتين في الأسبوع، لتعويض ما خسرته من رصيدها في البنك، وهكذا هو نظام الفائدة في ذلك البنك العجيب.

المغزى هو أن الوقت ذو قيمة مضافة لدى الشعوب المتحضرة، والتوازن بين الزمن المودع والمنصرف هو ما يجعل ذلك البنك قادراً على استثمار المدخرات البشرية لتمكين عجلة الحياة في المجتمع من الدوران والتقدم وإثراء المساهمات الإنسانية التطوعية للبذل للوطن لا الأخذ منه فحسب!

فكرة رائدة وملهمة، فهل يمكن تطبيقها في بلداننا، وترسيخ الإيمان بمفاهيم المواطنة الحقة التي بدأت بالتواري مع الأسف في أتون عواصف الدولة الريعية وحمم الاستهلاك.

لا أعلم مدى الدقة بحقيقة وجود "بنك الوقت" بهذا الاسم، لكنه بلاشك متميز بأهدافه ومضامينه الإنسانية، والمهم بالقصة هو لمعان الفكرة وبهاؤها المجتمعي، وتعزيز قيمة الوقت، وتسخيره لخدمة الغير، وخاصة في زمن طغيان المصالح المادية والأنانية على المصالح المجتمعية المشتركة.

شكراً أخي عزيز شكر.

● يوسف الجاسم