مَن يعرف الكويت وتاريخها والترابط الفريد بين أسرة الحكم وبين أهلها يدرك أنهما كانا دائماً يكمل بعضهما بعضاً، وإن ظهر أنهما متضادان، إذ سرعان ما تتحوّل تلك الضدية إلى قوة ورصيد للتلاحم والبناء، وكلّما مرّ على البلد ظرف أو أزمة تأكدت تلك الميزة الفريدة.

لكن لابد من أن نرصد تغييراً سلبياً في العلاقة بين الأسرة والشعب، بدأ ينال من مكانة الأسرة ومرجعيتها ورضائية العلاقة والشراكة في بناء الدولة، فقد تعمدت الأسرة التفرد بإدارة شؤون البلد، وتم العبث بتركيبة المجتمع السياسية والاجتماعية بالتجنيس السياسي والتغيير التحكمي في النظام الانتخابي، وفي تكوين فئة مجتمعية من الموالين ولاء هشاً مرتبطاً بنظام العطايا والمنح والترضيات الوظيفية أو التنفيعية، وواكبتها صناعة زعامات "العازة" بواسطة وجاهة تخليص المعاملات، والتعيين الباراشوتي للوظائف القيادية، وترتيب المناقصات والعقود الحكومية على مقاسات تنفيعية متبادلة.

Ad

ولم يقف الأمر عند ذلك، بل صارت الأسرة طرفاً في الصراع السياسي والمنافسة التجارية، وفي الاندفاع للوظائف العليا، وبدأت تتخلى شيئاً فشيئاً عن دورها الدستوري والمرجعي.

والأخطر أنه حدث توسع في انشطارها وصراعاتها في اصطفافات داخلية بين صفوف الأسرة، وخارجية بين أبناء الشعب، بصورة مضرّة بالأسرة وبالدولة، وزادت ممارسات تولّي غير المؤهلين من أبنائها للمسؤوليات المهمة في الدولة، حتى ترك ذلك أثراً عكسياً على مكانتها ومرجعيتها.

ولم تنجح الأسرة في تبنّي سياسات حصيفة من أجل إعداد صفٍ ثانٍ وثالث من أبنائها، ولم تتبنّ معايير ولا آلية داخلية لحسم التعاقب على منظومة الحكم سوى التراتبية العمرية، التي أثبتت إشكاليتها المستمرة بين كل حين وآخر في تأجيج الصراع، ولم يتم الحرص على نظام للتنشئة الملكية لأبنائها لصقل القدرات وتأهيل القيادات، كما تسلك ذلك الأسر الحاكمة في معظم الدول الملكية، وتُرك الأمر لمحض الحظ وللتجربة والخطأ، فضلاً عن إهمال انتقاء البطانة أو لأطراف في البطانة ذاتها، أو لردّات الفعل الشخصية، كل حسب توجهاته واجتهاداته، وهو ما أوجد شخصيات مزدوجة الجنسية أو الولاء في مواقع مؤثرة، بل إن بعضهم أدى الخدمة الإلزامية في بلده الثاني.

في المقابل، فإن الشعب الكويتي يعيش حيرة مصحوبة بتساؤلات وتعجّبات عديدة، منها سبب ابتعاد الأسرة عن الحفاظ على الرضائية في علاقتها بالشعب، ولماذا تزيد الأسرة من مجالات تفرّدها بالقرارات، ولماذا هناك إخفاقات مستمرة فيمن يتم الدفع بهم للمواقع التنفيذية، سواء من أبنائها أو غيرهم، ولماذا هناك إصرار على تجاهل التوجهات الانتخابية؟

أهي سياسة مقصودة وتوجهات مرسومة، أم أنها استجابة لقوى ضاغطة تمكنت من مفاصل الدولة ومؤسساتها، أو أنه تحالف مع طرف يُشعرها بحاجتها إليه، وربما لديه ما يبتزها به، أو هي قلة "الدبرة"؟!

فالناس وصلت إلى حالة من الضجر من غياب الدور المأمول من أسرة الحكم، وأن تتجاوز النمط العشائري، الآخذ في الازدياد بكل أسف، في تعاملها مع الشعب، أم هو منطق فرض الواقع وسياساته أياً كانت، وتراكم ملفات تشكل ثقلاً جاثماً على صدر البلد، وعدم وجود رؤية ولا رغبة في تطبيق سياسات إصلاحية، لتمثل نهجاً جديداً وجاداً في مكافحة الفساد وشخصياته.

فالناس في حيرة؛ لماذا لا تُحلّ مشاكل البلد وتفك طلاسم عقدة تراجعه وفساده والتضخيم المصطنع لمشكلاته، وهل الأسرة لا تزال تُمارس التجريب السياسي، أم مشغولة بتحقيق مكاسب آنية وفردية بدل بناء الدولة، أو لقلة المؤهلين من أبنائها، خصوصاً بعد فشل 3 من أبنائها في قيادة دفة السلطة التنفيذية على مدى ١٥ عاما؟! فما الذي تنتظره أسرة الحكم؟ وما كلمة السر التي تحقق تغيير نهجها؟

فعلاً الناس في حيرة، لكن غير قابلة، ولن تتهاون عن واجب إصلاح بلدها.

● أ.د. محمد المقاطع