وصل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى السلطة في مرحلة مضطربة من عام 2018، وامتدت احتجاجات شعب «أورومو»، أكبر جماعة عرقية في البلد، على سنوات عدة ودفعت الحكومة إلى إعلان حالة طوارئ، وكادت الاضطرابات العرقية والإقليمية القديمة تفكك الائتلاف الحاكم المعروف باسم «الجبهة الديموقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية».

ينتمي آبي إلى جماعة «أورومو» ويعتبر نفسه إصلاحياً، وقد تعهد بإحداث تغيرات اقتصادية وسياسية جارفة وبدأ مساعيه لعقد السلام مع عدوة إثيوبيا اللدودة، إريتريا، ورحّبت الولايات المتحدة بهذه المبادرات المبكرة، ودعمت الأجندة الإصلاحية التي طرحها رئيس الوزراء، ووعدت حكومته بمساعدات سخية، وحين فاز آبي بجائزة نوبل للسلام في عام 2019، اعتبر البعض هذا الحدث دليلاً على بدء حقبة جديدة من السلام والديموقراطية في إثيوبيا.

Ad

لكن بعد مرور ثلاث سنوات على هذه الأحداث، أصبحت إثيوبيا غارقة في حرب أهلية، وبات إقليم «تيغراي» الشمالي على شفير كارثة إنسانية كبرى، وتواجه القوات الإثيوبية وحلفاؤها والمتمردون تُهَماً بارتكاب انتهاكات فادحة لحقوق الإنسان، حيث يسيطر المتمردون التابعون للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على معظم مناطق «تيغراي» وإقليم «أمهرة» المجاور، وهم يهددون بالزحف نحو العاصمة أديس أبابا لإسقاط حكومة آبي بالتعاون مع ثوار «أوروميا».

على ضوء هذا التحول السريع في الأحداث، دانت الولايات المتحدة تحركات إثيوبيا خلال الحرب، وأوقفت معظم مساعداتها الأمنية للبلد، وسمحت بفرض عقوبات ضد شخصيات تعتبرها واشنطن مسؤولة عن تأجيج الصراع في «تيغراي»، وفي الوقت نفسه، حاولت إدارة الرئيس جو بايدن إطلاق عملية سلام، فأرسلت المبعوث الأميركي الخاص في القرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، إلى إثيوبيا للضغط على مختلف الأطراف ودفعها إلى عقد تسوية، وتبدو معالم أي اتفاق محتمل واضحة: وقف سريع وغير مشروط لإطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية بلا عوائق، وتنظيم حوار وطني شامل، لكن لم يوافق أي طرف من الصراع على هذه الشروط، ويبقى التأثير الأميركي على هذه الأطراف محدوداً، حيث يعتبر جميع الفرقاء هذا الصراع وجودياً اليوم، وقد زاد انقسام البلد بسبب وفرة الأخبار حول الأعمال الوحشية المرتكبة.

مع ذلك، قد تُحقق الجهود الدبلوماسية بعض النجاح، وقد تكون القوات العسكرية في ساحة المعركة والقادة في إثيوبيا (لا الدبلوماسيون من الخارج) مسؤولين عن تحديد نتيجة الصراع في نهاية المطاف، لكن تستطيع الولايات المتحدة أن تشارك في تحديد أسس السلام، فيمكنها أن تُسهّل مثلاً تنظيم المحادثات بين الأطراف التي لا تثق ببعضها، وتقدّم مساعدات تقنية عند الحاجة، مثل مراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، وتطرح توجيهات حول تفاصيل أي عملية سلام مستقبلية لإبقاء البلد في الاتجاه الصحيح.

نحو الفوضى

لم تغرق إثيوبيا في الحرب الأهلية فجأةً كما يظن البعض، فبالإضافة إلى مبادرات الإصلاح المبكرة، شهدت أولى سنوات آبي تصعيداً سريعاً في منسوب العنف السياسي: اغتيالات، اشتباكات مسلّحة بين قوات الأمن الإقليمية، اعتداءات قاتلة من جانب ميليشيات عرقية، حملة كبرى لمكافحة التمرد في أجزاء من «أوروميا»، موجة هائلة من النزوح الداخلي، وقد حصلت هذه التطورات كلها قبل اندلاع الحرب الأهلية.

لكن منذ أكثر من سنة بقليل، كان إقليم «تيغراي» لا يزال مستقراً ويخضع لسيطرة «الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي» التي احتفظت بقوتها حتى تلك الفترة، لكن العلاقات بين مسؤولين إقليميين من «تيغراي» وحكومة آبي تدهورت تدريجاً في عام 2020، فطبّق الطرفان سياسة حافة الهاوية بطريقة استفزازية. وفي نوفمبر 2020، تزامناً مع حشد القوات الإثيوبية وتلك التابعة لحلفائها على حدود «تيغراي»، أطلقت «الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي» ما سمّته «ضربة استباقية» ضد القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي، فسارعت أديس أبابا لتصنيف «الجبهة الشعبية» كمنظمة إرهابية وأعلنت أنها تنوي تدميرها. في المرحلة اللاحقة، اندلعت حرب عنيفة لأقصى الدرجات وشملت حملات متعمدة من التجويع، والعنف الجنسي، والنهب المنهجي، ومهاجمة المدنيين، بمن في ذلك اللاجئون.

ظن الكثيرون أن تحقيق السلام في إثيوبيا يتمحور في المقام الأول حول إقناع «قوات دفاع تيغراي» والحكومة الإثيوبية بالموافقة على وقف إطلاق النار، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي دمّرتها الحرب، وأخيراً إطلاق حوار وطني شامل، لكن كان الصراع متعدد الأطراف منذ البداية وزاد تشعّباً مع مرور الوقت، بالإضافة إلى «قوات دفاع تيغراي» والحكومة الإثيوبية، تورطت قوات من إريتريا و«أمهرة» في الحرب، إلى جانب ميليشيات محلية متنوعة شاركت في أعمال العنف الطائفية وحملات التطهير العرقي. ارتكبت جميع الأطراف أعمالاً وحشية، لكن لطالما ركّزت منظمات حقوق الإنسان على انتهاكات القوات الإثيوبية والإرترية وقوات الأمن الإقليمي من «أمهرة».

في الفترة الأخيرة، غيّر «جيش تحرير أورومو» المتمرد مسار الصراع بطريقة جذرية، حيث يقاتل هذا الجيش الحكومة الإثيوبية منذ عام 2018، وكانت معظم عملياته محصورة في غرب «أوروميا»، لكن في شهر أغسطس الماضي، وقّع «جيش تحرير أورومو» و«قوات دفاع تيغراي» على اتفاق للتعاون ضد حكومة آبي، إذ تحمل الحركتان تاريخاً من العداء وأهدافاً مختلفة جداً لا تقتصر على إسقاط آبي، لكن قد يطرح تحالفهما، مهما كان قصيراً، تهديداً قاتلاً على الحكومة في أديس أبابا. سبق أن بدأ «جيش تحرير أورومو» بالتحرك شرقاً، باتجاه جنوب «أمهرة»، ويقال إنه دخل إلى بلدة «كيمسي»، في جنوب مواقع «قوات دفاع تيغراي». لم يتّضح بعد مدى استعداد الجماعات المتمردة للزحف نحو العاصمة أو احتمال نجاحها إذا حاولت تحقيق هذا الهدف، لكن حتى لو بقيت هذه الجماعات في مكانها، يمكنها أن تُهدد الطريق السريع الذي يربط بين أديس أبابا وميناء جيبوتي (إنه شريان حياة أساسي لإثيوبيا غير الساحلية)، وقد تتمكن أيضاً من فرض الشروط التي تريدها في أي تسوية سلام.

نحو السلام

غداة هذا التصعيد المفاجئ، كثّفت الولايات المتحدة جهودها الدبلوماسية، ففي الأسبوع الماضي، سافر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى كينيا، وهي أول رحلة له إلى بلد إفريقي، لمناقشة وضع إثيوبيا ومسائل أمنية إقليمية أخرى مع الرئيس أوهورو كينياتا الذي يشارك بدوره في جهود السلام. كرر بلينكن دعواته إلى محاسبة المرتكبين وشَكَر كينياتا على تعاونه، لكن لم يتحقق أي تقدّم بارز، وفي الوقت نفسه، يتابع فيلتمان ونظيره في الاتحاد الإفريقي، رئيس نيجيريا السابق أولوسيجون أوباسانجو، حملة من الدبلوماسية المكوكية بحثاً عن طرقٍ لوقف جرائم القتل.

لكن لا تزال الخلافات قائمة بين مختلف الأطراف المتناحرة، ففي وقتٍ سابق من نوفمبر، طرحت وزارة الخارجية الإثيوبية مجموعة من الشروط لوقف إطلاق النار، منها انسحاب «قوات دفاع تيغراي» بالكامل من «أمهرة» وإقليم «عفار» المجاور، لكن من المستبعد أن يوافق الطرف المعني على هذه الخطوات، فقد طالبت «قوات دفاع تيغراي» من جهتها بإنهاء الحصار الإنساني قبل أن توافق على وقف الأعمال العدائية، وهو شرط رفضته أديس أبابا وفضّلت لوم «قوات دفاع تيغراي» ومظاهر انعدام الأمان على إعاقة توزيع المواد الغذائية في «تيغراي». يزداد الوضع تعقيداً أيضاً لأن قوات إريتريا و«أمهرة» لم تشارك في النقاشات الأولية حول وقف إطلاق النار.

لا تزال فرص السلام ضئيلة إذاً، لكن تستطيع الولايات المتحدة أن تبذل جهوداً فاعلة لتقريب مختلف الأطراف من عقد اتفاق معيّن. يجب أن تعطي واشنطن الأولوية لوقف الأعمال الوحشية، حيث تكون اتفاقيات وقف إطلاق النار الأكثر فاعلية حين يتم التفاوض عليها (بدل الإعلان عنها بطريقة أحادية الجانب)، وعندما تشمل بنوداً مفصّلة عن النطاق الجغرافي، وكيفية مراقبة تنفيذ الشروط، وتبادل الأسرى، واستئناف التواصل وعمليات النقل.

يجب أن تسعى الولايات المتحدة إلى تحديد أكبر قدر ممكن من التفاصيل في اتفاق وقف إطلاق النار وتُسهّل مشاركة جميع الأطراف فيه، كذلك، قد تفكر واشنطن بتنفيذ هذا الاتفاق على مراحل كي تعود القوات المتناحرة إلى ثكناتها بعد تنفيذ خطوات أقل إثارة للجدل، ويُفترض أن يقدم الأميركيون وشركاؤهم المساعدة لأطراف الصراع، وتحديداً على مستوى مراقبة وقف إطلاق النار.

على صعيد آخر، يجب أن تحاول الولايات المتحدة تحديد مسار محادثات السلام، فغالباً ما يكون اختيار المشاركين في المفاوضات من أصعب المسائل المطروحة لأن المشاركة تعطي درجة من الشرعية، وقد يقرر المهمّشون أحياناً أداء دور تخريبي. سيكون إشراك معارضة «أورومو» في محادثات السلام مثيراً للجدل، لكن أصبح «جيش تحرير أورومو» لاعباً عسكرياً مؤثراً، ويمثّل قادة معارضة «أورومو» المعتقلون، من أمثال بيكيلي جيربا وجوهر محمد، شرائح واسعة من الناخبين، وفي حال إقصاء هذه الأطراف من اتفاق وقف إطلاق النار أو أي مفاوضات لاحقة حول تسوية سياسية معينة، قد يستنتج جزء كبير من شعب «أورومو» أن الصراع المسلّح هو الحل الوحيد لإسماع صوته، ولهذا السبب، يجب أن توصي الولايات المتحدة بدعوة قادة «أورومو» للانضمام إلى المحادثات.

قد تؤثر واشنطن أيضاً على تحديد تسلسل خطوات عملية السلام، ويمكن تفعيل هذه العملية عبر تجزئة الخطوات الصعبة، مثل وقف إطلاق النار الشامل، إلى خطوات صغيرة وفردية، ومن خلال السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى «تيغراي» لمكافحة الجوع مثلاً، قد ينشأ الزخم اللازم لإطلاق حوار وطني شامل، وبالإضافة إلى تطوير عملية السلام، سيكون إنهاء الحصار الإنساني ضرورة قصوى من الناحية الأخلاقية لأن استمرار هذا الحصار ينتهك القانون الدولي.

في نهاية المطاف، سيُحدد الإثيوبيون بأنفسهم مسار الحرب الأهلية في بلدهم، لكن تستطيع واشنطن والاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي عموماً المشاركة عبر تقديم التوصيات والمساعدات واستعمال تأثيرهم المحدود على أطراف الصراع للضغط باتجاه إرساء السلام، وقد يسمح التواصل المستمر والتصريحات الواضحة حول المخاطر المطروحة على وحدة إثيوبيا وضرورة محاسبة المرتكبين بتسليط الضوء على التكاليف الضخمة التي سيتكبدها المقاتلون إذا أصروا على المسار الراهن، فلا تزال الولايات المتحدة من أبرز الجهات المانحة التي تستفيد منها إثيوبيا، ورغم زيادة أهمية لاعبين جدد مثل الصين ودول الخليج وتركيا في القرن الإفريقي، تبقى واشنطن جهة لا غنى عنها في منظمات متعددة الأطراف مثل البنك الدولي والأمم المتحدة، علماً أن أديس أبابا ستصبح بأمسّ الحاجة إلى هذه الجهات لإعادة إعمار البلد بعد الحرب، كما تستطيع واشنطن أن تستعمل هذا النفوذ، ويُفترض أن تستعمله، لتشجيع مختلف الأطراف على إيجاد حل بديل عن الحرب.

تيرانس ليونز– فورين أفيرز