مع بداية دخول الخمسينيات من القرن الماضي وتولي الحكومة إدارة مرافق الكهرباء، تحت مسمى "إدارة كهرباء الكويت"، بعد تأميمها وتسلمها من "شركة كهرباء الكويت المحدودة"، سعت الإدارة الجديدة لتخفيض رسوم الكهرباء إلى أدنى سعر، لتكون في متناول الجميع. وصاحَب الأمر انتشار كل الأجهزة التي تعمل بواسطة الكهرباء، على نطاق واسع، وظهرت في الأسواق متاجر ومحلات عديدة تبيع الأجهزة الكهربائية على اختلاف أشكالها وأنواعها. في منتصف الخمسينيات، اشترى والدي جهاز تسجيل ماركة "غروندك - Grundig" وهو من الصناعة الألمانية الممتازة! وكنا نطلق على هذا الجهاز اسم "المسجلة"، لأنها بالفعل تلتقط وتسجل انبعاث أي صوت، وحرص والدي على تسجيل بعض البرامج والمقابلات والخطب والاحتفالات المنقولة عبر الأثير! وفي مساء يوم من الأيام بذلك الزمان، كان والدي يستعد لتسجيل خطاب الرئيس جمال عبدالناصر، وللرئيس جمال حضور جماهيري كبير في كل الدول العربية، وخصوصاً منطقتنا الخليجية والكويت التي تؤيده ضد الاستعمار... فأحضر والدي شريط التسجيل وجهز الميكرفون ووضعه أمام المذياع، ولم تكن أجهزة التسجيل في ذلك الوقت تعمل بذاتها، مثل الوقت الحاضر، بل بواسطة سلك طويل متصل ما بين "المسجلة" و"الميكرفون"... وخلال استعدادات الوالد، كان مذيع إذاعة "صوت العرب"، أحمد سعيد، بين الفترة والأخرى يعلن ويقول: "أيها السادة والسيدات... بعد قليل سوف تستمعون إلى خطاب جماهيري هام للرئيس جمال عبدالناصر"... ويستمر المذيع على هذا المنوال، مع بث فاصل من الأغاني الوطنية لمدة طويلة، لجذب أكبر عدد من المستمعين إلى الخطاب! وخلال استعداد الوالد للتسجيل، كان ينبهني ويحذرني بالتزام الصمت والهدوء وعدم الكلام كي لا أفسد التسجيل... وامتثلت لتعليمات والدي وكتّفت يديّ لإثبات التزامي بالهدوء!

ولكن الرياح تسير بما لا تشتهي السفن... فكان في بيتنا القديم بالحي القبلي بقرة، وبيوت الكويت القديمة مبنية على الطراز العربي، كما هو معروف، فأي صوت خارج الحجر يسمع في الداخل بوضوح.

Ad

بدأ الرئيس جمال عبدالناصر خطابه وقال: "أيها المواطنون"... فصاحت البقرة بصوت قوي: امباع...امباع!

فانزعج الوالد بشدة، ولم يستطع فعل أي شيء، فلقد التقط جهاز التسجيل صوت صياح وهياج البقرة... والحقيقة أنني في ظل ما حصل لم أستطع تمالك نفسي، وانفرطت بضحك متواصل، والموقف بالفعل يدعو إلى الضحك، فخرجت مسرعاً من الدار خوفاً من أن ينالني شيء من غضب الوالد، رغم أن البقرة كانت السبب، وهي التي أفسدت تسجيل الخطاب!

مازلت محتفظاً بـ "المسجلة" والشريط، وكلما استمعت إليه ينتابني ضحك شديد، وأسترجع ذاكرتي إلى الماضي بتذكر بيتنا القديم والأهل وبقرتنا الحلوب وضحكي الطفولي.

د. عادل محمد العبدالمغني