في مراحل عدة من آخر ثلاثين سنة، بدت الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة عالقة في منافسة مباشرة مع القوى العظمى الأخرى بالية بقدر الحرب الباردة، ثم طبّقت الإدارات الأميركية المتلاحقة مبدأ الأمن الجماعي على اعتبار أن القوى العظمى في العالم تتقاسم مصلحة مشتركة تقضي بالحفاظ على النظام الدولي القائم.

لطالما أيّد القادة الأميركيون مبدأ الأمن الجماعي بعد كل صراع بين القوى العظمى، لكن اتّضح فشل هذه الجهود كلها في أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فاستولت روسيا على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا ودعمت عملاءها لاحتلال أجزاء من إقليم «دونباس» هناك، كذلك عمدت الصين إلى عسكرة الجزر في بحر الصين الجنوبي، رغم التطمينات التي قدّمتها في هذا المجال، وبكل بساطة لا تهتم الصين وروسيا بالانضمام إلى النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، فلطالما رفض البلدان هذا الطرح لكنهما كانا يفتقران إلى الوسائل اللازمة للتصدي له علناً.

Ad

نتيجةً لذلك، زادت قناعة صانعي السياسة الأميركية بأن «المنافسة بين القوى العظمى» لم تنتهِ بعد الحرب الباردة، واتّضح هذا الموقف رسمياً في «استراتيجية الأمن القومي لعام 2017»، وذُكِر هذا التحدي صراحةً في «استراتيجية الدفاع الوطني للعام 2018» التي تعطي الأولوية للتحديات المتزايدة التي تطرحها روسيا الانتقامية والصين المتوسّعة، فاعترفت «استراتيجية الدفاع الوطني» بهذه التهديدات على النظام الدولي، لكنها لم تطرح أي استراتيجية جديدة وقوية لمعالجتها.

تسلم إلبريدج كولبي، وهو واحد من أبرز مهندسي «استراتيجية الدفاع الوطني»، هذه المهمة الآن، حيث كان كولبي نائب مساعد وزير الدفاع في إدارة الرئيس دونالد ترامب، وهو يعرض موقفاً دفاعياً أميركياً جديداً ومناسباً في كتابهThe Strategy of Denial: American Defense in an Age of Great Power Conflict (استراتيجية الحرمان: الدفاع الأميركي في عصر صراع القوى العظمى). تُركّز استراتيجية كولبي على الهدف الأميركي القائم منذ قرنٍ من الزمن ويقضي بمنع أي قوة منافِسة من فرض هيمنتها في أوراسيا، ويعترف كولبي بأن «زمن القوة الأميركية أحادية الجانب» انتهى، ويحذر اليوم من نشوء «واقع جديد» يفرض على واشنطن أن تتقبّل احتمال اندلاع حرب بين القوى العظمى بعدما اعتُبِرت هذه الفكرة جزءاً من الماضي.

نحو تقوية البنية العسكرية

يظن كولبي أن منع الصين من فرض أمرٍ واقع يتطلب موارد سياسية وعسكرية هائلة، ففي المقام الأول، يجب أن تؤدي واشنطن دوراً أكثر فاعلية بكثير في آسيا، وبما أن الهيمنة العسكرية الأميركية في المنطقة لم تعد قائمة ولا يمكن تجديدها، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تعلن بكل بساطة نيّتها «تحويل» مواردها السياسية والعسكرية إلى غرب المحيط الهادئ أو «تجديد توازنها». ولإقامة توازن عسكري إيجابي، يدعو كولبي الولايات المتحدة إلى بناء «ائتلاف مناهض للهيمنة» تفوق قوته العسكرية الإجمالية القوة الصينية.

لكنّ الائتلاف الجديد الذي يؤيده كولبي ليس شكلاً من التحالف ولا نسخة مستحدثة من حلف الناتو، بل إنه يتصوّر نشوء اتحاد من الدول فيه عدد من حلفاء واشنطن ومجموعة أكبر حجماً من الشركاء الإقليميين، ويفترض كولبي أن يتكوّن الائتلاف من حلفاء واشنطن (أستراليا، اليابان، الفلبين، كوريا الجنوبية)، بالإضافة إلى تايوان، وتبرز الحاجة إلى تدعيم هذه الكتلة التي تقودها الولايات المتحدة عبر مجموعة أوسع من الشركاء الأمنيين، وتأتي الهند على رأس القائمة التي يقترحها كولبي، فهي قوة عظمى والعنصر الرابع من تحالف «الحوار الأمني الرباعي» الذي يزداد قوة ويشمل أستراليا واليابان والولايات المتحدة.

ويعتبر كولبي حجم أندونيسيا وموقعها الاستراتيجي عاملَين جاذبَين، وهو يرحّب أيضاً بانضمام ماليزيا وسنغافورة، لكنه يتردد في ضم فيتنام مع أنها قد تكون من الأعضاء القيّمين في الائتلاف، لكنها ضعيفة جداً أمام التحركات الصينية نظراً إلى حدودها البرية المشتركة مع بكين.

يدعو كولبي الولايات المتحدة إلى قيادة جهود تشكيل الائتلاف، لكنه يعرف الوسائل التي تسمح لواشنطن بتحقيق هذا الهدف، فبرأيه، يجب أن تكون أي استراتيجية حرمان واقعية بشأن قدرات الجيش الأميركي، ورغم أهمية حفظ الموارد لمواجهة تحديات عالمية أخرى، يجب أن تتابع واشنطن التركيز على الصين، وقد تؤدي محاولات الحفاظ على ائتلاف مماثل بأقل كلفة ممكنة إلى إضعاف جهود إقناع الحكومات الشريكة بجدّية التزامات الولايات المتحدة، وعند الاقتضاء، يجب أن تتبنى واشنطن «موقف الحرب الواحدة» تجاه الصين وتتقبل المخاطر المتزايدة عند التعامل مع التهديدات الأخرى، حيث يعترف كولبي بمخاطر الاعتداء الروسي ضد دول الناتو في أوروبا، لكنه يؤكد صعوبة كبح الوقائع التي تفرضها الصين مقارنةً بأي اعتداء روسي ضد دول الناتو على الخط الأمامي من المواجهة. باختصار، يجب ألا تبني الولايات المتحدة جيشها للتعامل مع أي سيناريو آخر تزامناً مع خوض الحرب مع الصين بسبب تايوان.

لكن ما معنى «موقف الحرب الواحدة» في إطار الائتلاف المناهض للهيمنة؟ يطرح كولبي في كتابه مجموعة خطوات يُفترض أن يتخذها الجيش الأميركي، ولإطلاق رد سريع وفاعل، تحتاج القوات الأميركية إلى التوسّع في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. ونظراً إلى مخاطر حصول اعتداءات مشابهة للهجوم على «بيرل هاربر» ضد القواعد الأميركية الكبيرة والقليلة في أماكن مثل غوام، و«كادينا» في اليابان، و«أوسان» في كوريا الجنوبية، يدعو كولبي أيضاً إلى نشر القوات الأميركية في عدد إضافي من الدول الأعضاء في الائتلاف، ومن وجهة نظره، سيُطمئِن هذا التحوّل الدول الشريكة والمضيفة حول التزام الولايات المتحدة بالدفاع عنها.

ربما يتعلق الهدف الأساسي من نشوء الائتلاف الذي يدعو إليه كولبي بردع الاعتداءات الصينية في المقام الأول، لكن تبرز الحاجة أيضاً إلى مواجهة التحركات الصينية عبر استعمال القوة إذا فشل نظام الردع، وحتى لو نجح الرد العسكري، قد تقرر الصين متابعة الحرب عبر نشر قوات إضافية مثلاً لإطلاق هجوم منهجي آخر ضد تايوان أو تصعيد الصراع بدرجة فائقة، ويظن كولبي أن الصين ستتردد على الأرجح في خوض حرب كبرى وأعلى كلفة لأنها ستتحمّل أعباء التصعيد في مطلق الأحوال، لكن إذا حصل اعتداء ضد تايوان فعلاً، فلا شيء يؤكد نجاح الأميركيين وحلفائهم في هزم الهجوم الصيني القوي، ففي الوقت الراهن، يتجاوز إنتاج المعدات العسكرية (منها غواصات، وطائرات، وصواريخ، وسفن حربية) حجم الإنتاج الأميركي بفارق كبير، وإذا تحوّلت الحرب إلى سباق لإعادة تحميل الأسلحة، قد يبقى الائتلاف الذي يقترحه كولبي اليوم في المرتبة الثانية في أفضل الأحوال.

ثمن الوقاية

على غرار جميع الاستراتيجيات الأخرى، لا تخلو استراتيجية كولبي من المخاطر، فحتى الآن، لا يبدو حلفاء واشنطن في الناتو مستعدين لتكثيف الجهود الاستراتيجية ضد روسيا فيما تزيد الولايات المتحدة تركيزها على الصين، وإذا بقيت فيتنام خارج الخطة الأمنية الأميركية الجديدة، كما يقترح كولبي، فقد تتحول إلى واحدة من أولى ضحايا التوسع الصيني الإقليمي، مما يعني إضعاف التحالف المناهض للهيمنة قبل أن يتسنى له تقوية أسسه.

لكن يبدو أن عدداً من الدول الأعضاء التي حددها كولبي بات أكثر استعداداً اليوم للتكاتف ضد القوة الآسيوية الطموحة والمُهيمِنة، فقد تعهدت اليابان مثلاً بزيادة النسبة التي تُخصّصها للدفاع من ناتجها المحلي الإجمالي، حتى أنها قد تضاعفها في مرحلة معينة، وتسعى أستراليا من جهتها إلى زيادة قواعدها الجوية والبحرية الكبرى للترحيب بالوجود العسكري الأميركي المتوسّع، مع أنها تنشغل في الوقت نفسه بإضافة غواصات الهجوم النووي إلى أسطولها بموجب الميثاق الأمني «أوكوس» بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة. من الهند إلى فيتنام، ومن أندونيسيا إلى كوريا الجنوبية، تتعدد المؤشرات التي تثبت أن الائتلاف المناهض للهيمنة، بالشكل الذي يقترحه كولبي، لن يكون مجرّد طرح طموح بل إنه احتمال واقعي إذا أبدت الولايات المتحدة استعدادها لقيادته.

لكن رغم هذه التطورات الواعدة، يلفت كولبي إلى أن النجاح لن يكون سهلاً أو غير مكلف، فلا تستطيع الولايات المتحدة تحمّل كلفة الميزانيات الدفاعية خوفاً من أن تتحول إلى قوة ضخمة ظاهرياً رغم تراجع قدراتها، وبعد مرور عقد تقريباً على تغيّر الأفكار السائدة، لا تستطيع هيئة الأركان المشتركة الأميركية أن تتأخر لفترة إضافية في طرح مفهوم جدير بالثقة حول العمليات المرتقبة للدفاع عن غرب المحيط الهادئ وتوجيه أولويات ميزانية الدفاع.

أخيراً، يكشف كتاب كولبي نطاق وعمق رؤيته حول التحديات التي تطرحها القوى العظمى الرجعية على الأمن الأميركي والنظام الدولي ككل، وعلى غرار جميع الاستراتيجيات الجدّية الأخرى، يعترف كولبي بأن الموارد الأميركية تبقى محدودة ويؤكد ضرورة اتخاذ قرارات صعبة. باختصار، يطرح هذا الكتاب المدروس والعميق نقطة انطلاق مدهشة وأساسية لنقاشٍ عاجل وضروري حول استراتيجية الدفاع الأميركية.

• أندرو ف. كريبيفيتش جونيور – فورين أفيرز