أصبح للبعض هواية واحدة يتشدق بها كل يوم على عباد الله الساجدين الخاشعين لقدرهم الذي وضعهم تحت رحمة بعض أولي الأمر! هذه الهواية هي المزايدة في الحديث عن الابتكارات والاختراعات الجديدة، وكلهم يكرر "فكروا خارج الصندوق" حتى أصبحت هذه العبارة ممجوجة مملة، بل بلا معنى حيث يكثر أنصاف المتعلمين وأنصاف الجهلة من حملة الشهادات العليا وضعها في جملة مفيدة أو ربما غير مفيدة.

ذاك الذي يحدثك كل يوم عن الذكاء الصناعي، والآخر الذي يعمل على إقناعك أن القضاء على الفقر والجوع والجهل والحروب والنزاعات والطائفية والتعصب والانغلاق والتمسك بقشور القشور كلها تأتي من خلال الاختراعات والابتكارات والذكاء الصناعي، حتى اقتنع البعض أن كثيرين من العاملين في المنظمات والمؤسسات التي يترأسونها لا لزوم لهم!

Ad

بعضنا كان يشكك في أصحاب هذه النظريات، لكنه كآخرين كلما فتح فمه لطرح السؤال الصارخ في وجه مثل هذا اللا منطق كيف يحل الذكاء الصناعي الجوع أو الجهل أو يوقف الطائفية وينهي الحروب على الأرض وما في باطنها؟ قيل له إنك من أصحاب نظرية المؤامرة، فلا يملك سوى أن يخرس أو أن يلتزم الصمت لأنهم حولوا كل ما لا يشبههم إلى شيء من العار أو الجهل أو التقوقع في الماضي السحيق.

ومن منا لا يحس أنه مدين بل عدو للناس والبشرية، إذا ما اختلف معهم أو أبدى بعض الشك فيما يدور حوله أو ربما لأنه كثير الأسئلة، إلى أن صدر ذاك الكتاب الذي فتح باب النقاش واسعاً ليس على صفحات "فيسبوك" أو "تويتر" فقط، بل بين الأكاديميين في غرفهم الأكثر محافظة على بعض ما تبقى من العلمية والعقل، هو كتاب يلخص تجارب كثيرين كتبوا عن الحلول بدلا من الحديث عن المشاكل أو العقد، وخلاصة تجاربهم جميعا تأتي في جملة واحدة "العالم ليس بحاجة إلى اختراعات وابتكارات جديدة بل إلى توزيع أكثر عدالة لما تم إنجازه". بمعنى أن تنقل الأفكار والاختراعات الموجودة إلى أشخاص ومجتمعات لم يعرفوها، وقد تكون هي ما يبحثون عنه لإيجاد حلول خاصة جداً بمجتمعاتهم أو بلدانهم أو شركاتهم أو مؤسساتهم.

يقول أحد الذين تم اللقاء معهم لجمع المعلومات لهذا الكتاب إن أكثر الأفكار إفادة لا تزال مركونة فوق الأرفف، ويعلوها التراب ويصرخ "انفضوا التراب عن كل تلك الأفكار، فالعالم لا تنقصه الأفكار الجيدة، بل كيفية تعميم الاستفادة منها". ويقول آخر نحن لا ندرك كم من المفيد أن تنتقل التجارب المفيدة أسرع من الطائرات والصواريخ، فهي قادرة على التخفيف من أوجاع البشر، بل القدرة على إضافة بعض السعادة على أيامهم الصعبة، ويقول آخر التقته جريدة "النيويورك تايمز": "هناك مدن أو بلدان تعاني التغير المناخي أو انتشار بعض الأمراض كالسكري أو التصحر أو الإدمان بين الشباب أو... أو"، ويضيف أنه بالتأكيد توجد مدن أو بلدان أخرى استطاعت أن تقضي أو تواجه أو تحارب مثل هذه الأمراض والأوبئة البيئية أو المناخية أو البشرية أو الدينية وغيرها، ولكننا لم نتعلم كيف ننقل الأفكار الناجحة وكيف نضاعف الاستفادة من تجارب الآخرين.

يقول كثيرون من هؤلاء الذين قضوا ما يقرب من 11 سنة في الحديث عن كيفية الاستفادة من الأفكار الجيدة، إننا في كثير من الأحيان نقلل من أهمية بعض أفراد المجتمع مثل بطيئي التعلم أو بعض المختلفين ممن لا يشبهون الغالبية العظمى من البشر، ونتصور أنهم لا يقدمون شيئاً للمجتمع لنتفاجأ أنه إذا ما فتحنا المساحات لهم، وجدنا أنهم أكثر قدرة على أن يكونوا أفراداً فاعلين في مجتمعاتهم، أي بدل أن ننتقدهم ونطلق عليهم التسميات والوصمات السلبية علينا أن نفهم أن البشر بطبعهم تواقون للمساعدة وتقديم الدعم إذا ما أتحنا الفرص لهم، ولم نوصد الأبواب والنوافذ في وجوههم.

إحدى اللاتي التقتهم "نيويورك تايمز" تقول إن الإعلاميين نشأوا وتعلموا أن الخبر الجيد هو الخبر السيئ، وفي ذلك ساهم الإعلام والصحافة في نشر، بل البحث أحيانا، عما هو سلبي بدلا من التفكير والبحث عن الأفكار والأعمال الإيجابية التي "لا توكل عيش" كما تعلمنا من كليات الإعلام والصحافة العريقة.

معظم الذين شملتهم اللقاءات صحافيون وإعلاميون من شبكة الحلول الإعلامية، وهي مثل كثير مما هو مفيد في مجتمعاتنا تحارب في بلادها كما تحارب في كل البقاع لأنها تقف في وجه كل تلك الرياح العاتية القادمة من الشركات العابرة للقارات والحدود والمتخصصة في نشر ثقافة الاستهلاك وغواية الأسماء والمصطلحات الجديدة.

ليتنا نتعلم من بعض تجارب الآخرين الناجحة بدلا من سباق قفز الحواجز الذي يمارسه المسؤولون عندنا تماشيا مع الموضة أو تشبهاً بها أو حتى فقط لنيل صفة بعيدة جداً عنهم!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

● د. خولة مطر