بعد سنتين فقط على العملية الانتقالية الديموقراطية التاريخية في السودان، أدى انقلاب الجيش السوداني في 25 أكتوبر إلى كبح خطوات البلد المتعثرة نحو الاستقرار، وخلال الأسابيع التي تلت السيطرة على الحكومة، عمد الجنرال عبدالفتاح البرهان، رئيس القوات المسلحة السودانية، إلى حل المؤسسات المدنية وأبقى رئيس الوزراء المخلوع عبدالله حمدوك وسياسيين بارزين آخرين قيد الاحتجاز. في غضون ذلك، نزل عشرات آلاف السودانيين بكل شجاعة إلى الشوارع احتجاجاً على الوضع، ونظّموا إضراباً عاماً في ظل احتدام أزمة النقص الغذائي والتضخم.

لكن تحمل تحركات عبدالفتاح البرهان معنىً بالغ الأهمية بالنسبة إلى الدبلوماسية الأميركية في المنطقة، فقد أعطى الرئيس جو بايدن الأولوية للقرن الإفريقي، على عكس سلفه، فعيّن المبعوث الخاص جيفري فيلتمان لتطوير وتنفيذ استراتيجية لإرساء السلام في هذه المنطقة المضطربة، كذلك، دعمت الولايات المتحدة الديموقراطية الناشئة في السودان بمساعدات مالية، وضمانات للقروض، وإعانات لبناء المؤسسات وإصلاح القطاع الأمني، لكن الانقلاب الأخير فاجأ واشنطن بكل وضوح، فحصل بعد ساعات قليلة على لقاء فيلتمان مع البرهان في الخرطوم وتشديده على التزام واشنطن القوي بالاتفاقيات القائمة بين القيادات المدنية والعسكرية.

Ad

كان استيلاء البرهان على السلطة أشبه بازدراء مباشر بالولايات المتحدة، وقد أدى إلى زيادة التشكيك في النفوذ الأميركي في بيئة غير مستقرة أصلاً، فزادت جرأة البرهان على الأرجح بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان نتيجة رفض رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، للجهود الأميركية الرامية إلى إنهاء الحرب والأزمة الإنسانية في ذلك البلد. اليوم، يُهدد الجنرال بتفكيك حكومة ديموقراطية ناشئة أخرى كانت تحظى بدعم الولايات المتحدة، مما يعني إرضاء روسيا والصين والحكام المستبدين المرتقبين حول العالم.

لكن يصعب توقّع هذه النتيجة مسبقاً، فمقارنةً بديموقراطيات هشة وطموحة أخرى في أنحاء الشرق الأوسط الكبير خلال السنوات الأخيرة، يحتفظ السودان بعلاقة دبلوماسية قوية مع الولايات المتحدة، وفي مطلق الأحوال سيكون التأكد من دعم الحلفاء الأساسيين في المنطقة (مصر، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة) عاملاً محورياً لاستمرار نفوذ واشنطن. ويُعتبر استعداد إدارة بايدن لاتخاذ خطوات سريعة لإعادة إحياء العملية الانتقالية الديموقراطية في السودان اختباراً حاسماً لقدرة البلد على تحديد النتائج السياسية في القرن الإفريقي ومنطقة البحر الأحمر وتنفيذ الأجندة الديموقراطية التي طرحها بايدن وتزداد هشاشة اليوم حول العالم.

مع زيادة احتمال عودة الحُكم العسكري، قرر عدد كبير من السودانيين الحفاظ على الخطوات اللافتة الأولى التي اتخذها البلد نحو استرجاع الحرية ومحاسبة الحكومة، فجرت الاحتجاجات الأخيرة بقيادة تحالف «قوى الحرية والتغيير» المؤلف من جماعات مهنية، ومنظمات المجتمع المدني، ولجان الأحياء، وأحزاب سياسية كانت قد نظّمت الاحتجاجات السلمية التي أسقطت نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019، ولطالما أثبتت هذه الحركة القوية أنها لا تنوي الرضوخ للجيش.

إذا نجحت «قوى الحرية والتغيير» في إعادة حمدوك إلى السلطة، فمن المتوقع أن تُشجّعه على اتخاذ خطوات جذرية لتفكيك سلطة الجيش. منذ سنتين، رضخ البرهان أمام ثقل التظاهرات الشعبية والضغوط الدولية بقيادة الولايات المتحدة، ويأمل الديموقراطيون السودانيون أن تنجح الصيغة نفسها اليوم، لكن يثبت الجنرالات هذه المرة أن إخضاعهم بات أصعب من أي وقت مضى.

ظل البشير يُخيّم على البلد

يضع عدد كبير من السودانيين الانقلاب الأخير في خانة الثورة المضادة، مما يعني العودة إلى أيام الرئيس السوداني القوي عمر البشير، حيث لم يكن البرهان وقادة الجيش يتولون مناصب بارزة في عهد البشير فحسب، بل إنهم استفادوا أيضاً من «الدولة العميقة» التي استعملها لفرض حُكمه، فخلال عهده، كانت شبكات من الضباط العسكريين والإسلاميين تدير شركات غامضة تُعنى بصناعة الأسلحة وتجارة الذهب وتبييض الأموال، بالإضافة إلى السيطرة على عدد من الشركات الشرعية التي فازت بمشاريع بناء مربحة وعقود خاصة بعمليات الاستيراد والتصدير.

ربما أدت تحركات حمدوك لتفكيك تلك الشبكات إلى تسريع الاستيلاء على السلطة، فقد قرر البرهان، منذ وصوله إلى السلطة، إطلاق سراح عدد من كبار شخصيات النظام السابق من السجن حيث كانوا ينتظرون محاكمتهم بتُهَم الفساد، حتى أنه عيّن مساعدين قدامى في مناصب أساسية تسيطر على الموارد المالية والنفط والمعادن.

تُعتبر هذه الخطوات خطيرة بنظر كل من عايش العهد السابق، حيث دام نظام البشير طوال ثلاثة عقود عبر إدارة مختلف فصائل البلد ببراعة، وتألّف ناخبوه من الإسلاميين الذين قايضوا على مر السنين مبادئهم المتطرفة بمكاسب الرأسمالية المبنية على المحسوبية، وضباط الجيش والأمن الذين استفادوا من الصفقات الفاسدة، ورؤساء المحافظات وقادة الميليشيات الذين تلقوا الأموال لإخضاع إقطاعياتهم لإرادة الحكومة، وبدل تلبية المطالب الشرعية لسكان جنوب السودان ودارفور وجماعات أخرى تعاني بسبب غياب المساواة في حجم الثروات والنفوذ، حوّل البشير السياسة السودانية إلى بازار يتنافس فيه أعضاء النخبة الحاكمة على المكافآت الشخصية.

في غضون ذلك، تصاعدت مشاكل عامة السكان وزادت سوءاً، ففي جنوب السودان، قرر أمراء الحرب المحليون، الذين يتلقون المال من الحكومة لقمع الاحتجاجات، الانحياز لحركة «جيش التحرير الشعبي السوداني» المتمردة ودعم قرار الانفصال. في دارفور، جَلَب أقوى قائد شبه عسكري، الجنرال محمد «حميدتي» دقلو، قواته العسكرية إلى الخرطوم حيث أصبح من أهم صانعي القرارا، وبعد استحواذ الجيش وجهاز الأمن على 60% من إنفاق الحكومة، أصبحت الأزمة الاقتصادية حتمية.

ورغم نشوء قيادة مدنية جديدة في الخرطوم بعد عام 2019، بقيت أرياف السودان خاضعة لحُكم قادة الجيش والقوات شبه العسكرية ورؤساء القبائل، وفي عهد البرهان وحميدتي، نشأت صراعات عنيفة جديدة بين الجماعات العربية وغير العربية في دارفور ومناطق نائية أخرى، وتهجّر أكثر من 400 ألف شخص هذه السنة.

يريد البرهان، بمواقفه غير المقنعة حول الاستقرار، أن يعيد إحياء سياسات البشير، فإذا تمكن الجنود من تحديد شروط اتفاق التسوية مع المدنيين، فلن تتغير الميزانية العسكرية المتضخمة في السودان حينها، وسيبقى تدخّل الجيش المفرط في الاقتصاد قائماً، ما يؤدي إلى خنق السوق الحر واستفحال الفساد وازدهار زعماء المحافظات، وإذا بقي نظام البرهان على حاله، فقد يعيد السودان إلى أحلك أيام العسكرة الكليبتوقراطية والصراعات اللامتناهية.

مَخرج للأزمة

رغم كل شيء، يمكن تحسين النتيجة النهائية حتى الآن، ففي الأسبوع الثاني من هذا الشهر، انهارت صيغة تسوية تهدف إلى إعادة حمدوك إلى رئاسة حكومة مدنية جديدة بسبب تعنّت البرهان، فقد رفض الجنرال التخلي عن سيطرته على الأصول الاستراتيجية في الاقتصاد وإعادة اللجنة المدنية التي عمدت إلى تفكيك الرأسمالية الفاسدة في النظام السابق، لكن من خلال كشف حقيقة البرهان، قد تشكّل هذه التحركات حافزاً قوياً كي يتخذ الأميركيون وحلفاؤهم خطوات ضد ميزانية الجيش، بما في ذلك فرض عقوبات مستهدفة.

في غضون ذلك، لا يستطيع البرهان أن يتحمّل خسارة الدعم الشعبي بالكامل، وهو يدرك أن استعمال القوة ضد المحتجين (منهم فئات متنوعة من الشعب اليوم) سيفسد الوضع كله. يستطيع حمدوك وتحالف «قوى الحرية والتغيير» تقديم بعض التنازلات المتواضعة لمساعدة البرهان على حفظ ماء وجهه وتقوية المرحلة الانتقالية في السودان من خلال إنشاء المجلس التشريعي المنتظر منذ وقت طويل مثلاً، شرط أن يكون تمثيل الأحزاب السياسية وبعض الممثلين العسكريين متوازناً فيه، إذ سيكون إرسال البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي خطوة حاسمة في هذا المجال، لكن يمكنه أن يُحاكَم أيضاً في السودان كجزءٍ من تسوية سياسية.

في الأسابيع التي تلت الانقلاب، أعلنت الولايات المتحدة أنها مستعدة لتقديم بعض التنازلات، فخلال نقاش في المعهد الأميركي للسلام في 2 نوفمبر، اعتبر فيلتمان الاستقرار من أولويات واشنطن، وفي بيان صدر في اليوم التالي، شدد التحالف الرباعي، بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا، على ضرورة أن تلتزم أي حكومة سودانية بالإعلان الدستوري من عام 2019 واتفاق جوبا للسلام «كأساس لأي حوار آخر حول كيفية تجديد شراكة صادقة بين السلطة المدنية والجيش والحفاظ عليها...». لكن لا يتطرق هذا الموقف إلى المطالبة الصريحة بإعادة إحياء الحُكم المدني ويتجنب المسألة المرتبطة بتسليم البرهان للسلطة خلال هذا الشهر.

لكن إذا أرادت الولايات المتحدة أن تكبح مسار البرهان وتدعم حركة الديموقراطية المحاصرة في السودان، فيجب أن تتحرك في أسرع وقت، فمن خلال استعمال المال كأداة أساسية للضغط على البرهان، تستطيع واشنطن، بدعمٍ من حلفائها في الشرق الأوسط وأوروبا، أن تضع الجنرالات في موقف صعب، وفي الوقت نفسه، قد تنجح الولايات المتحدة في إعادة البرهان إلى طاولة المفاوضات عبر بناء جبهة دبلوماسية دولية موحّدة لدعم المعسكر المعارِض لأي تغيير حكومي غير دستوري في الاتحاد الإفريقي ولتعزيز مطالب الشعب السوداني بالحُكم المدني، لكن من دون هذا النوع من الالتزامات، يجازف السودان بخسارة التقدم الذي أحرزه حتى الآن، وبالإضافة إلى المخاطر المطروحة على مستقبل السودان، سيصبح الالتزام الأميركي بالديموقراطية مُهدداً أيضاً.

● أليكس دي وال – فورين أفيرز