ورثت عن المرحوم والدي نسخة "أثرية" للميثاق الذي قدمه الزعيم القومي جمال عبدالناصر الى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في 21 مايو 1962، وهي نسخة نادرة أصلية طبعت آنذاك واقتناها أو أهديت للمرحوم والدي الذي عشق القراءة ورائحة الورق كما هي الحال مع ولده، وحين ينوي المرء أن يقرأ صفحات كتلك المشار إليها فعليه أن يضع المسألة في سياق تاريخي صحيح، ويعيش اللحظة، ويفهم أن الموضوع لم يكن مؤتمراً قومياً والسلام، بل كان حشداً جماهيرياً فكرياً واستعراضاً لأفكار "اشتراكية ناصر" على مر سنين طويلة، والتي قدمها وركز فيها على مناهضة الاستعمار ومحاربة حلف رأس المال والفساد، وصولا إلى مشاكل وعراقيل تطبيقها على الأرض.

وصدق الرئيس جمال عبدالناصر في كل كلمة قالها في "الميثاق"، ولكنني لم أتمالك نفسي إلا أن أبتسم حين قرأت جل المكتوب لسبب بسيط جداً، ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه مشاكل العرب في الأمس بتلك التي نواجهها اليوم مع اختلاف طفيف في المسميات، سواء كان ذلك في مصر أو الكويت أو أيا كان ما بين المحيط الى الخليج. كسائر عظماء التاريخ، جمال عبدالناصر له عيوب كأي قائد ولديه مشاكل حتى في التحليل السياسي والتطبيق على أرض الواقع، لكن المشكلة الحقيقية التي واجهته (في نظري) غياب الفريق والبطانة من حوله التي تستطيع أن تطبق الحلم العربي الأعظم. عموما، ذاك نقاش ليوم آخر.

Ad

بالنظر تحديداً إلى بابي الميثاق السادس (في حتمية الاشتراكية) والثامن (مع التطبيق الاشتراكي ومشاكله) نجد الردود الشافية لمنتقدي الفكر الاشتراكي الذين تصمت أفواههم مع كل أزمة اقتصادية تحل على العالم، ويطالبون الحكومات بإنقاذهم من ويلاتها، والأمر والأدهى أن المطالبات نفسها كانت وما زالت موجودة عند شعوب المنطقة العربية.

يركز الميثاق هنا على أن حرية المجتمع تكمن في الطريق الى عدالة اجتماعية وتحقيق السبل للمواطن في نصيب عادل من الثروة من خلال تطبيق الاشتراكية، وطبعا على تأميم وسائل الإنتاج لدحض الاستعمار المبطن الذي غذى الإمبريالية العالمية من خلال ثروات وخيرات العالم العربي.

طبعاً هذا الكلام نفسه ما زال مطبقاً اليوم ولكن بأسلوب مختلف جداً جداً، وبأسلوب متفاوت بين الأقطار العربية سواء في إفريقيا أو الخليج أو غيرهما ومن خلال العولمة الجشعة أو الإمبريالية المحدثة المتبعة لأساليب هذا العصر، ومن هذا كله يعرج "ناصر" على ضرورة حماية المجتمع من المراهقة الفكرية وحماية وحدة الأسرة مع متابعة دراسة تعدادها وحماية خصوصيتها، لكن ختام "الميثاق" عن الوحدة العربية هو الباب الذي أخل موازين القوى في المنطقة اليوم.

لم يكن يعلم "ناصر" أن الشعوب العربية نفسها ستطالب بإعادة الاستعمار لحماية ممتلكاتها بسبب الفساد المستشري الذي نخر في ثرواتها لسنين متواصلة، طبعاً تعذر مثل تلك المطالبات بسبب قصر نظر البعض واليأس من واقع مر، إذ لم يكن يعلم كذلك أن الشعوب هي ذاتها ستقوم بمطالبات للحد الأدنى من الحريات فقط لتستطيع أن تتنفس دون أن تبيت في السجون.

باختصار شديد ومع تعاقب الأزمان، تكمن مشكلة الفكر العربي في مسألتين واضحتين: غياب مفهوم الحريات الشخصية وأزمة الثقة مع الأنظمة والأفراد.

تلك المشاكل في نظري كان "الميثاق" يحاول أن يحلها وهي تنصب على المجتمع بكل تعاملاته اليومية والسياسية مع الأفراد فيما بينهم، وفيما بين بعض الأنظمة وشعوبها كذلك، ولهذا جذر واحد حاول الكثير أن يزرعه من جديد، وأن يقوم بتأصيله مرة أخرى، ألا وهو غياب العدالة الاجتماعية. غياب هذا العدل هو الذي يجعل من الناس البسطاء أن يبحثوا عن أمل في مناجاة المستعمرين ومغازلتهم وأعوانهم من الفاسدين ليقوموا بتحقيق شيء من العدالة في مجتمعاتهم، ولو كانت لأنفسهم فقط، وطبعاً قس على ذلك الدائرة الأصغر داخل كل مجتمع أو دولة، وهكذا دواليك حين تجد أضداداً تقوم بالمطالبة من فاسدين بأن يتدخلوا لتحقيق شيء من العدل وإن سلبوا ممتلكاتهم بنسب أقل من أسلافهم.

غياب العدل الاجتماعي وتفاوت الطبقات في صراع مستمر على النصيب العادل من الثروة، وهذا له عواقب وخيمة ومصائب لا يوجد شعب على الأرض يستطيع أن ينكرها، ولكم من الحاصل حواليكم خير مثال.

د. سلطان ماجد السالم