فور قراءة العنوان يحلّق خيال كل منّا إلى عالم خاص تجيء به هذه الأغنية الجميلة التي تغنى بها عوض دوخي بصوته المميز، وشغلت منذ ظهورها حيزاً مهماً من ذاكرتنا الموسيقية ويتم طلبها وعزفها باستمرار في مختلف المناسبات بمشاهدات مليونية في "يوتيوب"، مصحوبة بالآلاف من تعليقات الإعجاب والمحبة من مختلف البلاد العربية، وهي أرقام آخذة في الازدياد.

لطالما استهوتني محاولة فك طلاسم هذه الأغنية الغامضة، وخصوصاً في معانيها التي تعبّر في أغلبها عن الشوق والفراق والبكاء والأمل باللقاء، بالرغم من أن اللقاء كان قد وقع بالفعل منذ البدء، حسب ما يخبرنا به المطلع عندما مرّ الأحباب على الشاعر عصرية العيد!

Ad

لم تشهد هذه الأغنية ولادة طبيعية كأخواتها، فقد نشأت في ظروف تحدث عن بعضها عوض في مقابلة إذاعية.

ففي شهر رمضان من عام 1961 دعت وزارة الإعلام الفنّانين إلى تقديم أغنيات بمناسبة عيد الفطر السعيد، ليتم بثها عبر الإذاعة، قرر على أثرها الأخوان دوخي (يوسف وعوض) أن يستعينا بشعر من الفولكلور المغنّى (فن عاشوري) لورود ذكر العيد في شطره الأول وهو:

حس السهارى يوم مروا عليه.. عصرية العيد

نوّخ ذلوله وقام يبكي عليه.. بالدمع همّال

ليقوما بعدها بتعديل بعض المفردات لتبسيطها على المستمع العربي، وتم تكرار ذكر "عصرية العيد" في الشطر الثاني لتأكيد الارتباط بهذه المناسبة، مع استحداث أبيات وموسيقى جديدة، ليتم تسجيلها في غضون أسبوعين، صانعة بدورها أغنية صوت السهارى كما نعرفها، واتضح للمسؤولين بعد بثّها عدم صلتها بالعيد، فتم تصنيفها بعد ذلك كأغنية عاطفية لا أغنية مناسبة، كما كان الهدف الأول من التكوين.

وقد كشف لي الشاعر والمؤرخ الفني ناظم السماوي عن زوايا غير مكتشفة في بناء هذا العمل، لكونه شاهداً عليها ومشاركاً بها، ففي أثناء تجهيز الأخوين لتلك الأغنية كانا في مقهى يملكه والده في منطقة شرق بالقرب من سوق واجف، على مقربة من مكتب عبدالله فضالة الذي كان مركزاً للقاءات الفنانين، وطلب يوسف دوخي من ناظم أن ينظم أبياتاً يكمل بها هذه الأغنية الجديدة، خاصة أنه كان قد أصدر عام 1959 ديوانه الأول في الكويت بعنوان "جنوبيات"، فكتب المقطع الثالث من الأغنية وهو:

كلّي أمل ألقاك.. متشوّق لرؤياك.. يا ويلي من فرقاك

والقلب صار مشغول.. والعين تطول وتقول.. صدّك حرام يطول

فأعجب بها يوسف، واستبدل "يا ويلي من فرقاك" بجملة أخرى هي "لا وين أنا أطراك"، كما كشف لي عن مفاجأة أخرى، وهي أن الموسيقى الأساسية التي تبدأ بها الأغنية من مقام الحجاز ويتم بها غناء مذهب الغناء الأول وختام المقاطع التالية كان قد تم اقتباسها من أغنية للفنّان الشهير عباس جميل، وهي "حبيبي حبيبي.. تبقى حبيبي"، وكان قد سجلها على أسطوانة في الخمسينيات باسم مستعار وهو "عبّاس قمري"، قبل أن يعلن عن هويته لاحقاً، ولم يتسنّ لي بعد الاطلاع على تلك الأسطوانة النادرة للتحقق، إذ لا يزال البحث عنها جارياً.

ويستمر السعي لمعرفة المزيد من الأسرار المتعلقة بهذه الأغنية، فبالرغم من كتابة وتلحين الأخوين دوخي للمقطعين الثاني والرابع، فإن البناء الفكري والموسيقي للأغنية أقرب إلى مصر منه للكويت، مع ارتكاز الأغنية على إيقاع الوحدة الكبيرة لا على الإيقاعات الكويتية، وحتى في المفردات كان نطق بعضها باللهجة المصرية ومنها "ساعة ما شفتُه أنا"، ويمكن تأويل ذلك بالوهج الفني المصري المشع آنذاك مع وجود مجموعة من الموسيقيين المصريين، وعلى رأسهم عازف الكمان والملحن ورئيس فرقة الإذاعة وأحد مؤسسيها، نجيب رزق الله، الذي نشعر ببصمته وتأثيره في هذه الأغنية.

ومع تنوع مكونات هذه الأغنية ومنابعها المختلفة نظماً ونغماً، إلّا أنها أضحت بتناغمها وجمالها أغنية كويتية جميلة بلغت الـ 60 رمضاناً (بحسب ميلادها) ولا تزال في عنفوان شبابها، ويراودني تساؤل عن الأغنيات الوليدة هذه الأيام، أي منها سيعيش بصحة جيدة إلى عام 2081 لتصبح حينها ركناً من أركان التراث الكويتي؟

فيصل خاجة