"قبل ساعات قليلة على مغادرتي دولة الكويت الشقيقة، لا بد لي أن أشكر كل من سهل مهمتي وساعدني في تحقيق ما استطعت إنجازه خلال سنة من الزمن، وأنوه بفريق عمل السفارة اللبنانية من دبلوماسيين وإداريين، ومجلس العمل اللبناني في الكويت، ولجنة الصداقة اللبنانية الكويتية، وكل الأصدقاء من كويتيين ولبنانيين.

كما أخص بالشكر معالي وزير الخارجية الشيخ د. أحمد الناصر، على كل ما قام ويقوم به من أجل لبنان، ونحن نعول عليه وعلى حكمته وبعد نظره ودبلوماسيته لإيجاد المخارج المناسبة لهذه الأزمة العابرة بين لبنان وإخوته في دول الخليج العربي.

Ad

الكويت ساحرة، تعشق عمق ثقافة أبنائها وسعة معرفتهم، كما تنحني إجلالا لفسحة الحرية والديموقراطية الكبيرة التي أرساها حكم آل صباح لها، وعلى رأسهم صاحب السمو الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح ومن سبقه من أمراء هذه العائلة الكريمة، المحبة للبنان واللبنانيين.

شکراً کويت العز، وعلى أمل اللقاء القريب".

بهذه الكلمات الصادقة والمحبة عبّر القائم بأعمال السفارة اللبنانية في الكويت "هادي هاشم" عمّا يجول في خاطره من أفكار وعمّا يكتنزه وجدانه من مشاعر عند مغادرته لهذا البلد المشعّ ثقافة والبهي ديموقراطية، معوّلاً بمنطق الثوابت وتكرار السوابق على الدور المحوري للدبلوماسية الكويتية في رأب الصدع المستجد بين لبنان ودول الخليج.

الكلام الهادئ والموزون الذي صدر عن رأس البعثة اللبنانية في الكويت لا يتضمن أي مجاملة ولا يحمل في طياته أي مبالغة. هو تعبير صادق عن واقع ساطع، وتصريح واجب من وطني وعروبي استطاع بذكاء وموضوعية أن يتلمس، خلال إقامته القصيرة نسبياً على هذه الأرض الطيبة، حقيقة الواقع الكويتي، وأن يعايش بعمق طبيعة العلاقة الوجدانية التي تربط بين الشعبين الشقيقين.

لم يسمع القائم بأعمال السفارة اللبنانية في الكويت في مجالس اللبنانيين العامة والخاصة إلا دعوات بدوام النعمة على الكويت وأهلها، ولم يستشف من نخب الجالية اللبنانية في الكويت إلا الحرص الدائم على المشاركة في عمرانها والمساهمة في ازدهارها، ولم تثبت في ذهنه إلا صورة واحدة عن العطاء الذي قوبل بالوفاء، فكان، على عهد من سبقه من السفراء، مفاخراً بالجالية اللبنانية التي تثبت الأرقام أنها أقل الجاليات المقيمة في الكويت ارتكاباً للمخالفات والجرائم، ومعتزاً- غير متفاجئ- بأصالة الشعب الكويتي الذي فتح قلبه قبل بيوته وديوانياته للصداقات اللبنانية وشرّع مؤسساته للإبداع اللبناني.

"شکراً کويت العز، وعلى أمل اللقاء القريب"، عباراتان قد تلخصان كل المشهد الذي يخدش صفوه بعض الكدر العاجز عن تبديل الحقيقة أو تغيير القدر، فقدر الكويت أن يقترن اسمها بالعزّ، وقدر الأوفياء أن يقولوا شكراً، وقدر الأحضان المحبّة أن يقال لها إلى اللقاء القريب.

القراءة الهادئة لواقع الحال، والتعامل المتزن مع الأزمة العابرة، يفرض علينا جميعاً، لبنانيين، كويتيين وخليجيين، ألا نتجاوز تحت أي ظرف عمق العلاقة المتجذرة فيما بيننا، وأن ندرك تماماً حجم المصالح المشتركة التي تربط مصايرنا ببعضنا، فالمستقبل الواعد لن يختلف عن تاريخ الأخوة المشرق، كما أن الحاضر مهما حاصرته الاستثناءات لن ينسلخ عن القاعدة الثابتة التي تجعل من خسارة أي منا سباحة عكس التيار في محيط عربي أوسع مدى من أي اتجاه وأكثر حضوراً من أي واقع.

لم تتخلّ الكويت– كما دول الخليج- يوماً عن "جمهورية الحروب والأزمات" في أحلك ظروفها، كما لم تلتفت شعوبها عن معاناة الشعب اللبناني في أقسى وأصعب أيامه، ورغم ما قد تتفرّد به بعض الاتجاهات أو تفرضه بعض المتغيرات الظرفية، لم يتنكّر لبنان الرسمي والشعبي لفضل أشقائه وأصدقائه، ولم يكن الشعب اللبناني- على اختلاف انتماءاته وانقساماته- إلا وفيّاً لأواصر القربى، معتزاً بها، ومشاركاً إخوانه في أفراحهم وأتراحهم، في ثقافتهم وفنونهم، في بناء مجتمعاتهم وتنشئة أجيالهم، فرحاً سعيداً في سرّائهم ومؤنساً مواسياً في ضرّائهم.

يدرك اللبنانيون أن الأشقاء مهما تغاضوا عن آلام جراحهم ومهما سموا في درجات محبتهم، من حقهم أن يعبّروا- بالطريقة التي يرونها مناسبة- عن خيبتهم أو إحباطهم أو حتى امتعاضهم الشديد من أي سقطة أو إساءة قد تنسب للشقيق الأصغر أو ترتبط به، ولكن الأشقاء جميعاً يدركون أيضاً أن "الدم ما بيصير ميّ" وأن "الإخوة لبعض" مهما طال الزمان أو تبدلت الظروف؛ فما يجمعه الله لا تفرّقه أزمة دبلوماسية عابرة يتمنى الجميع ألا يطول أمدها وألا تتسع آفاقها وألا تأخذ حجماً يتخطى موقف العتب إلى حمأة الغضب.

لا شك في خطورة الأبعاد السياسية والاقتصادية للأزمة المستجدة بين لبنان وأشقائه الخليجيين، لكن الألم مما آلت إليه الأمور في العلاقة بين الدول تخفف من حدته نصاعة التاريخ المشترك والأمل بمساعي مجموعات الصداقة اللبنانية-الخليجية وجهودها، وفي مقدمتها "لجنة الصداقة اللبنانية الكويتية" التي حرص القائم بأعمال السفارة اللبنانية في الكويت على تبنيها ومباركة الإعلان عن انطلاقة أعمالها من مكتبه قبل مغادرته بأيام قليلة.

لقد كان مقرراً أن تكون باكورة أعمال لجنة الصداقة تنظيم فعالية بمناسبة عيد الاستقلال اللبناني بعنوان "شكراً الكويت" كتعبير أخوي وصادق عمّا يجمع بين البلدين وكلفتة عرفان للإخوة الكويتيين الذين جادوا بسيل من الكرم وفيض من الإنسانية وجزيل من العطاء على إخوانهم اللبنانيين المعانين اقتصادياً والمتضررين من انفجار العصر في مرفأ بيروت.

إن صوت العقل لن تشوه صداه فوضى الصخب العابر، ومتانة الشراكة الأخوية لن تضعفها أزمات استثنائية؛ الخليج يتنفس طاقة من هواء لبنان ويرتشف النقاء من مياهه ويستمد صلابة من جباله الخضراء، وبالمقابل فإن إهراءات القمح في مرفأ بيروت أبت إلا أن تؤدي دور الحامي لنصف قلب العاصمة المكلوم، وأن تبقى- رغم الدمار الذي أباد محيطها- صامدة واقفة لتشهد على بركة بنائها بأموال كويتية في ستينيات القرن الماضي.

فكما أن الشر لا يدوم والقوة لا تستمر، فإن النعمة والنقمة زائلتان، ولن يبقى ثابتاً جامداً متجذراً إلا ما زرع في وجدان حي أو أسس بجهود صادقة أو بني على قواعد متينة لا تزعزع صلابتها أي رياح موسمية أو عواصف هوجاء.

علاقة لبنان بمحيطه العربي والخليجي، هي علاقة مصير مشترك، وعطاء متبادل، ووقفات عزّ وكرامة جنباً الى جنب. وإن من يقول أو يدّعي غير ذلك ومن يسعى لتغير الواقع أو يغامر في تشويه الصورة، فهو يتنكر لثوابت التاريخ ويتجاهل حتمية المستقبل، ويعارض سنّة الحياة التي تجعل الشقيق قويّا بشقيقه مهما اختلفا في السن والبنية أو استقلا في التجربة والمصالح أو تفاوتا في الطباع والاتجاهات.

* كاتب ومستشار قانوني.

● د. بلال عقل الصنديد