في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، بدأت دراستي العليا في جامعة بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا. وكانت كما يجب أن تكون الجامعات العريقة. الجامعة كانت مبعثرة المباني بحكم قِدمها وتداخل أحياء المدينة، وكان بقربها وعلى شارع واحد هو فيفث أفينيو، 5 جامعات أخرى، من أبرزها جامعة كارنيغي ميلون الشهيرة، بالإضافة إلى جامعة أخرى للبنات. حديثي هنا لن يكون عن التعليم، لكن عن التلوث.

كانت مدينة بيتسبرغ من أشد المدن تلوثاً في الولايات المتحدة، لدرجة أننا كنا نشاهد الضباب الأسود تحتنا من أدوار ليست عالية. كانت مؤشرات التلوث أهم ما ينشر في الأخبار. وكان تلويث المصانع للأنهار الثلاثة ملحوظاً كمدينة صناعية قديمة. بعد أن غادرت بيتسبرغ كانت على حالها من التلوث البائس. وحين زرتها بعد عدة سنوات، وجدت المدينة غير المدينة التي تركتها، من حيث النظافة، وقلّة التلوث، حتى أنها فازت بجوائز التفوق في البيئة النظيفة.

Ad

قام المسؤولون بخطة متكاملة ونفذوها لتنظيف المدينة، ونجحوا في ذلك، فصارت مدينتهم من الأكثر نقاء في أميركا. كان التلوث من صناعة الإنسان، هادماً للبيئة، كما كان النقاء، وصداقة البيئة من صنع الإنسان نفسه.

أما الآن، فالعالم وهو يعاني أزمة صحية في "كورونا"، حيث زادت الوفيات لأكثر من 5 ملايين إنسان في أنحاء العالم، ومع أن الأزمة الصحية تجاوزت كونها صحية إلى إيذائها للكثير من مناحي الحياة، في إطار تهتك التعاون والتضامن الدولي، وهي حالة فاقت الأزمات الدولية بمراحل، إلا أن حالة البيئة المعتدى عليها، تبيح بأسرار عدوان البشر عليها طولاً وعرضاً، ومن المقرر أن يتسبب ذلك العدوان السافر على البيئة، في المزيد من ارتفاع درجات الحرارة عن معدلها، مما قد يؤدي إلى اختفاء مدن، والفيضانات، والجفاف والحرائق، وهي قد تستمر حتى تتحول إلى كارثة بيئية، تقضي على الأخضر واليابس، وبالطبع لن يتم استثناء البشر من الدمار والاندثار.

ما صنعه البشر من دمار بيئي، يستطيعون إصلاحه، وإلا فنحن أمام كارثة قادمة ستكون كارثة كورونا مشهداً عابراً.

يبدو أن أمّنا الأرض غاضبة على ساكنيها، فهم بذلوا ما في وسعهم لتدميرها وهتك أستارها ونشر السموم في ثناياها.

لم تعد المسألة البيئية وجهة نظر، ولكنها إما أن يبقى العالم، أو يزول.

أ.د. غانم النجار