في عددها الصادر بتاريخ 25 أكتوبر 2021 نشرت "الجريدة" خبراً عن عرض المنزل الذي سكنه ابن خلدون أثناء إقامته في مدينة فاس المغربية للبيع، وقد لفتني أن صاحب العقار بهدف الترويج "للصفقة" والترغيب فيها وضع إعلاناً جدارياً طبع عليه صورة المفكر العربي الكبير مع التعريف عنه بـ"واضع علم الاجتماع".

وفي اليوم نفسه تناقلت الصحف العربية- وبالطبع العالمية- خبر تسجيل اللاعب المصري محمد صلاح ثلاثة أهداف في مباراة واحدة مع فريقه الإنكليزي، ليؤكد استحقاقه للقب "فخر العرب" بالنسبة إلى الشباب العربي، وليؤكد بالنسبة إلى باقي شعوب الأرض استحقاقه للأرقام القياسية التي سجلت باسمه وللألقاب التي نالها بامتياز وجدارة.

Ad

في هذا الخبر أو ذاك ما يضعنا أمام علامة استفهام مستحقة وكبيرة بشأن تراثنا الحضاري ومستقبل شبابنا الذي لم يعد قادراً على تحقيق أي من تطلعاته ولا حفر اسمه في السجل الذهبي إلا خارج حدود دولنا وبعيداً عن مجتمعاتنا!

صاحب العقار حر بالطبع في حق التصرف بما يملك، ولا يمكن لأحد التنظير عليه من بعيد بشأن أهمية أو جدوى الاحتفاظ بمثل هذا الإرث العريق، فلكل شخص ظروفه وطريقته بالتفكير والتديير التي قد تدفعه للتخلي حتى عن إرث ذويه وأسلافه المباشرين، والدولة المغربية أجدر بتقدير الإجراء المناسب ولاسيما أن الخبر نفسه أشار الى أنه بعد انتشار الإعلان بادرت وزارة الثقافة المغربية إلى عقد لقاء مع ملّاك العقار تمهيداً ربما لتحويله الى صرح ثقافي وشاهد على تراثنا العربي والإسلامي.

الشباب العربي حرّ- والأرجح محق- أيضاً بالاعتزاز باللاعب المصري الذي اعتلى سلم المجد الكروي في الساحة العالمية، ليمثل موقع فخر لكل عربي ومصدر إلهام لكل طامح أو مهمش أو منسي في أزقة البؤس والأحياء التي يعيش فيها الأحياء عيشة الأموات!

واقعنا المرير يحتاج بالفعل وقفة تأمل صادقة، وتاريخنا المتأرجح بين نجاح أندلسي وإخفاقات دورية يتطلب نظرة موضوعية، فهل جبل العربي على نزعة البكاء على الأطلال؟ وهل الأزمنة السوداء من التاريخ تتكرر لدينا- دوناً عن كل الشعوب- في كل وقت وفي كل مناسبة؟ وهل سيستفيد الجيل العربي القادم من دروس الأجيال المتعاقبة؟ أم سيبقى شبابنا جليس المقاهي منتشياً ببعض النجاحات الفردية هنا أو مكتفياً ببعض الانتصارات الوهمية هناك؟!

يسجّل لابن خلدون أن الجامعات العالمية ما زالت تستهدي بمخطوطاته وكتبه وتتعمق بدراسة فكره السبّاق لعصره وتستفيد الى أقصى الدرجات من تبحره في تاريخ المجتمعات والحضارات، ذلك ليس لأنه من أصل عربي أو لأنه يدين بالإسلام، بل لأنه عالم أثبت الواقع صدق نظرته وصواب توصيفه.

الفتن التي "تتخفى وراء قناع الدين"، هي بنظر ابن خلدون "تجارة رائجة جداً في عصور التراجع الفكري للمجتمعات" وإذا "فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة" وعندما تنتصر أمة على أمة أو حضارة على حضارة، يصبح المغلوب في فكر ابن خلدون مولعاً- كما حال مجتمعاتنا- بـ"الاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله، وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه". العرب، في نعت هذا العالم الحضرمي- المتأثر سلباً بواقع عصره السياسي والاجتماعي والاقتصادي- "لا يتغلبون إلا على البسائط" كما أنه "لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية أو ولاية"، وإذا ما تحولوا من البداوة إلى الحضارة "ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم"!

وفي عصر أكثر حداثة، التصق بأحمد أمين، المتأثر حتماً بفكر ابن خلدون، وصفه لطابع العرب بأنه "ميل الى البداوة، وحكم بالقبلية... زهوهم بسيفهم ولسانهم، وقلقهم واضطرابهم، فإذا أحسُّوا ضعف رئيسهم فما أسرع ثورتهم! ثم هم أسرع ما يكون قبولاً للتأقلم والتحضّر، فإذا تحضَّرُوا انغمسوا في النَّعيم، ومالوا إلى خَصب العيش، وتأنَّقوا في المأكل والملبس والمشرب... وهُم في أوَّل أمرهم شجعان صُرحاء بسطاء، فإذا انغمسوا في النَّعيم، وقعوا في سيئات الحضارة، ففقدوا صراحتهم وبساطتهم، أحب إليهم الأدب والشعر لا الفلسفة والعلم، إلَّا أن يستعينوا بغيرهم من الموالي في تجميل دولتهم بالفلسفة والعلم".

إن منتهى الفشل أن يقودنا ما قرأناه الى مزيد من الإحباط، وبالمقابل فإن قمة النجاح أن تشكل الحقيقة الصعبة أو المبالغ في بعض من جوانبها، دافعاً لتصحيح المسار وتصويب الاتجاه، وسواء أكان إشعاع تاريخنا في الحضارة والعلوم ينسب لغير العرب من المسلمين أم لبعض العرب المتحضرين، فإن تلك حقبة قد ولّت بخيرها وشرها وذلك كتاب أغلقت دفته على ما احتواه، ما يهم أجيالنا هو المستقبل الآتي، وما ينفع شبابنا هو قناعتهم وتأكدهم من أنهم يمثلون فعلاً لا قولاً هدف التنمية وأدواتها.

عندما يشعر كل فرد منّا أنه مؤهل وقادر على أن يكون فخرا لنفسه ولأهله، يصبح تلقائياً فخراً للعرب، وعندما ينبذ شبابنا ثقافة الإحباط، وعندما تعي مجتمعاتنا خطورة الانقياد لإرادة الخارج أو لأهواء المتحكمين والفاسدين في الداخل، يصبح الأمل قابلاً للتحقيق، وبأسرع ما نتوقع أو نتصور. الولوج للمستقبل لا يمكن أن يكون إلا بالإرادة والعلم واستيعاب تجارب الماضي دون جمود أو تحيز أو رفض مسبق لواقعها.

لقد علمتنا الحياة وتاريخ الأمم والحضارات أنه لا مستحيل تحت قبة السماء إذا ما توافرت الأسباب، وصفت النوايا، واشتدت العزائم، وشحذت الهمم، واقترن الاتكال بالأفعال.

* كاتب ومستشار قانوني

● د. بلال عقل الصنديد