نشأت علاقات ثنائية بين تركيا والهند منذ قرون، لكن يبدو أن هذه العلاقة القديمة بدأت تتدهور، ومن الواضح أن أي رابط تاريخي وحضاري بين البلدين بدأ يتراجع لدرجة أن يتبادل الطرفان الآن الهجوم الدبلوماسي على الساحة الدولية أمام أنظار الجميع، ومن المتوقع أن يؤثر التوتر المتصاعد بينهما على المنطقة المجاورة لهما، لكن ما السبب الأصلي لتدهور هذه العلاقة؟

Ad

أخطاء إردوغان

بدأت العلاقات المشحونة بين البلدين تتدهور حين تدخّل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بشؤون الهند الداخلية، فكان استياء إردوغان يتمحور حول تعامل الهند مع الأقلية المسلمة فيها وسيطرة نيودلهي على إقليم كشمير المتنازع عليه.

إردوغان ليس معروفاً بتفضيله للجهود الدبلوماسية، وقد قال في الماضي: «الهند باتت تشهد اليوم مجازر على نطاق واسع. أي مجازر؟ إنها مجازر بحق المسلمين، من هم المرتكبون؟ الهندوس».

زاد الوضع سوءاً حين تطرّق إردوغان إلى إقليم كشمير الذي تديره الهند أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة طوال ثلاث سنوات متتالية، مع أنه كان يعرف جيداً أنه لا أحد من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وفي العالم عموماً يرغب في التدخل في مسألة تُعتبر جزءاً من شؤون الهند الداخلية.

لطالما كانت مكانة المسلمين وكشمير «حساسة» في السياسة الهندية، تنظر الهند إلى كل من يتناول هذه المسائل أو يثير المخاوف بشأنها، من داخل البلد أو خارجه، بعين الشبهة وتُعامله بدرجة من العدائية بغض النظر عن هويته.

تسود شكوك في الهند مفادها أن تركيا تتبنى هذا الموقف بتحريض من باكستان، ولم يتحسن الوضع حين حاول إردوغان تطوير علاقات عسكرية عميقة مع باكستان على حساب الهند، وبسبب هذه العوامل كلها، بدأت الهند تتخذ موقفاً صارماً من تركيا.

لا يزال الوقت مبكراً لتحديد الجهة الخاسرة من انهيار العلاقات الثنائية، لكن تكشف المؤشرات الأولية أن سياسة إردوغان الخارجية تجاه الهند قد تصبح مكلفة بالنسبة إلى تركيا.

نيودلهي هي المستفيدة

أدت دعوات إردوغان المتكررة إلى حل «نزاع كشمير» داخل الأمم المتحدة (رغم الموقف الدولي الذي يعتبر هذه المسألة ثنائية، ما يعني أن الحل يخصّ الهند وباكستان) إلى تبادل الهجوم بين الهند وتركيا.

في الماضي، كانت نيودلهي تحاول إخماد غضبها بالطرق الدبلوماسية حين يطلق إردوغان هذا النوع من المواقف الاستفزازية، رداً على تعليقات إردوغان حول كشمير خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2020، اختارت وزارة الشؤون الخارجية الهندية الرد الدبلوماسي، فأكدت أن «هذه التعليقات [حول كشمير] تعكس قلة فهم للتاريخ ولا تُعبّر عن أي براعة دبلوماسية، بل إنها تشوّه أحداث الماضي لطرح رؤية ضيقة عن الحاضر».

عندما حاول إردوغان إعطاء طابع دولي لذلك «النزاع الداخلي» أمام الأمم المتحدة في الماضي، ردّ عليه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عبر عقد اجتماعات مع رئيس قبرص ورئيسَي وزراء أرمينيا واليونان على هامش الاجتماع السنوي للهيئة الدولية. تخوض هذه الدول كلها نزاعات مختلفة مع تركيا وغالباً ما تحتاج إلى لاعبين عالميين مؤثرين للتكلم باسمها.

لكن حين قرر إردوغان هذه المرة أن يستعمل ورقته المفضلة مجدداً خلال خطابه أمام الجمعية العامة، أخذت نيودلهي الحرب الكلامية الدبلوماسية إلى مستوى غير مسبوق، وذكّرت الهند تركيا بأن نيودلهي، على عكس أنقرة التي غَزَت واحتلّت جزءاً من دولة قبرص المستقلة في عام 1974، لم تتخذ أي تدابير مشابهة مع كشمير.

حرصت الهند أيضاً على الدفاع عن إقليم كشمير المستقل في مناسبات متكررة ضد غزو باكستان المجاورة، ولتذكير إردوغان بأن تركيا أصبحت الآن في وضع دقيق على مستوى سيادة أراضيها ومكانتها الدولية، عَقَد وزير الخارجية الهندي الحاضر في الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماعاً مع نظيره القبرصي لمناقشة قرار مجلس الأمن المرتبط بمنطقة شمال قبرص التي تحتلها تركيا وإعادة توحيد الجزيرة.

بسبب انتقاد إردوغان للهند في مختلف المنتديات العالمية، يبدو أن نيودلهي قررت أخيراً التخلي عن مجاملاتها الدبلوماسية تجاه أنقرة. بقيادة حكومة قومية، تسعى نيودلهي اليوم إلى تطبيق ما يمكن وصفه بعبارة «الدبلوماسية العدائية»، وأعلنت أن «تركيا يجب أن تتعلم احترام سيادة الدول الأخرى وتعيد النظر بسياساتها جدّياً» في عام 2020، لكنها تدعم الآن أعداء تركيا صراحةً لإضعاف مصالح أنقرة في المنطقة.

رداً على هجوم أنقرة الدبلوماسي المتواصل في المواضيع غير الدبلوماسية، بدأت نيودلهي تطلق ردوداً لا تقتصر بالضرورة على المشاحنات اللفظية، وفي عام 2019، ألغت الهند مثلاً زيارة مقررة لرئيس حكومتها إلى تركيا، فحصل ذلك غداة قرار الهند وقف صادراتها الدفاعية التي شملت أسلحة ذات استخدام مزدوج، مثل المتفجرات والصواعق، إلى تركيا، وبدءاً من تلك المرحلة، خفّضت الهند أيضاً وارداتها من تركيا.

ولتقوية الهجوم خلال هذه الفترة، عقدت نيودلهي اتفاقاً دفاعياً مع أرمينيا، عدوة تركيا التقليدية في المنطقة، وبموجب صفقة بقيمة 40 مليون دولار، قدّمت نيودلهي إلى يريفان أربعة رادارات لتحديد مواقع الأسلحة من طراز «سواثي» ومن إنتاج «منظمة البحث والتطوير الدفاعي»، كذلك، انضمّت الهند إلى الأصوات العالمية التي تدين العمليات التركية الهجومية عبر الحدود ضد القوات التي يقودها الأكراد في سورية.

حرب ثقافية باردة

امتدّ موقف الهند الصارم والمستجد ضد أنقرة إلى المشهد الثقافي الهندي أيضاً، إذ تُعتبر تركيا من الوجهات المفضلة لدى بعض المنتجين والممثلين في بوليوود، حيث يشمل البلد مواقع مدهشة للتصوير، وتتراجع فيه ميزانية الخدمات، ويحبذ محبو الأفلام في الهند المناظر الطبيعية في تركيا، لكن نظراً إلى برودة العلاقات بين أنقرة ونيودلهي، اضطرب هذا الجانب من التبادل الثقافي بقوة في السنوات الأخيرة.

أثار عدد من أشهر الممثلين المسلمين في بوليوود استياء الرأي العام الهندي بسبب إشادتهم بتركيا خلال إقامتهم هناك لتصوير الأفلام. في أغسطس 2020، بعد أيام على مقابلة الممثل عامر خان وسيدة تركيا الأولى أمينة إردوغان غداة تصوير أحد الأفلام، انتشرت المواقف الشاجبة في أقسام من الصحافة الهندية القومية، فنشرت منظمة «راشتريا سوايامسيفاك سانغ»، الجناح الأيديولوجي في حزب «بهارتيا جاناتا»، افتتاحية تتّهم خان «بالتواطؤ مع القوى المعادية للهند»، لم يستفد خان من أفلامه الوطنية السابقة لتحسين صورته، بل إن القوميين المتشددين ذهبوا إلى حد التشكيك بانتمائه.

أغفل الهنود الغاضبون أيضاً المجاملة الخادعة التي وجّهتها سيدة تركيا الأولى إلى الثقافة الهندية حين كتبت التغريدة التالية: «كان من دواعي سروري أن ألتقي بعامر خان، الممثل والمخرج الهندي المعروف عالمياً».

برأي القوميين الهنود، يجب ألا يحصل أي تبادل ثقافي بين تركيا والهند، بما أن إردوغان، زعيم تركيا الإسلامي المتشدد، يدعم باكستان دوماً في إقليم جامو وكشمير المتنازع عليه، لن يكون تأييد الروابط الثقافية بين البلدَين مناسباً من وجهة نظر هذا المعسكر.

لكن لا يقتصر تشديد المواقف تجاه تركيا على عدد من المنظمات اليمينية في الهند، حتى رئيس وزراء جامو وكشمير السابق، عمر عبدالله، لم يحبّذ أو يقتنع بموقف خان الودّي تجاه الأتراك، وتجدر الإشارة إلى أن عبدالله كان من أشرس منتقدي نيودلهي وسياساتها في المنطقة المتنازع عليها، ورداً على ما حصل، كتب عبدالله عبر «تويتر»: «عامر خان مع زوجة الرئيس التركي إردوغان. تركيا تطلق حملة دعائية شاملة ضد الهند، فهذا هو هدف عامر خان الذاتي».

بعدما كانت تركيا من أفضل الوجهات السياحية للأثرياء الجدد في الهند، بدأت حركة مختلفة تنشأ وسط هذه الفئة التي طوّرت حديثاً حباً مستجداً للسفر إلى الخارج، فقررت مقاطعة تركيا وحذفها من لائحة وجهاتها المفضلة.

إلى أين؟

على أرض الواقع، تشير الأدلة إلى وجود علاقة شديدة التوتر بين تركيا والهند، لكن رغم مناوشاتهما الدبلوماسية الحادة وصدامهما الضمني على الساحة الدولية، من المستبعد أن تصبح أنقرة ونيودلهي عالقتَين بشكلٍ دائم في أي نوع من الحرب الباردة الخفيفة، إذ يتقاسم الطرفان روابط حضارية عميقة.

يجب أن نتذكر في النهاية أن أنقرة ونيودلهي معاً تخضعان لسيطرة حكومتَين يمينيتَين: واحدة إسلامية والثانية هندوسية. بعبارة أخرى، يشتق جزء كبير من الهجوم المتبادل بين الحكومتَين من خطابهما القومي الديني. ينجم موقف إردوغان الصارم من شؤون الهند الداخلية عن محاولة تركيا ترسيخ نفسها كقوة إسلامية مطلقة ومعاصرة وعابرة للحدود بين الدول المسلمة.

تدرك الطبقة الحاكمة والرأي العام في هذين البلدَين أن تدهور العلاقات الثنائية هو نتاج المغامرات المشبوهة التي أطلقها الرئيس التركي في مجال السياسة الخارجية، ويتمنى الكثيرون، في أنقرة ونيودلهي معاً، أن تتجدّد العلاقات الودية الطبيعية بين الطرفَين. فهل سيصغي إردوغان إلى هذه الأماني؟

● أماليندو ميسرا – موقع ناشيونال إنتريست