فرشتُ قصصي القصيرة التي نشرت على طاولة الطعام، ورحت أتأمل فيها. قرابة 50 قصة، على مدى ثلاث عشرة سنة، وعليَّ أن أختار من بينها لمجموعتي القصصية الأولى!

ما لبثتُ أن رددت مع نفسي: سأنشر كتابًا! سأنشر مجموعة قصصية! كانت الجملة جديدة عليَّ، وكانت غريبة عليَّ، وكانت مخيفة حدّ التفكير في الإحجام عنها. لكنني قطعتُ وعدًا أمام أستاذي عبدالمحسن البرّاك ود. سليمان الشطي، وكان ذلك بمنزلة إلزام بالنسبة لي. لذا لا مفرّ من اختيار قصصٍ بعينها من بين القصص التي نشرتها، لتكوّن متن مجموعتي القصصية الأولى.

Ad

كنتُ في هدأة الليل، وشيء من الموسيقى الكلاسيكية الهادئة يجالسني، ولا شيء يُمسك بي بقدر حيرتي وترددي وخوفي. ولكي أتجاوز شيئًا من ذلك، كان لا بدَّ لي من محادثة أستاذي إسماعيل فهد إسماعيل، فلا يصحّ أن أفكّر في نشر مجموعة قصصية وهو لا يعلم. ضغطت أرقام تليفون بيته، فجاءني صوته يضجُّ بحيويته: "ألو..." وأدفع كلمة تعلّقت بلهاة فمي قلت له: "أفكّر بنشر مجموعتي القصصية الأولى".

"ممتاز!". قالها بنبرة عالية، فانتبهت أصواتًا من حوله، ويُكمل مضيفاً: "تعال زُرني مساء غد بعد الثامنة، ونتفاهم". ودون أن يسمع منّي ردًّا أنهى المكالمة بعد أن قال لي: "تصبح على خير".

مكالمة إسماعيل زادت من تشويشي، ولم تعنّي على شيء: "نتفاهم؟!". على ماذا سنتفاهم إسماعيل وأنا حيال مجموعتي الأولى؟ ما الذي يُريدني هو أن أعرفه قبل خوض مغامرة كتابي الأول؟ رحت أطالع قصصي المنشورة، ولا أدري كم بقيت ليلتها على تلك الحال، إلى أن فوجئت بصوت ابنتي فرح، وكانت حينها في السابعة من عمرها: "بابا، لماذا تجلس ساكتًا؟" كانت قد استفاقت من نومها واستغربت جلوسي وصمتي.

كعادته بابتسامته التي تنبع من عينيه فترسم وجهه، استقبلني إسماعيل، وبادرني: "سأسافر إلى الفلبّين وسأكتب رواية عن الغزو العراقي". فوجئت بجملته، وبقرار سفره وقرار كتابته رواية عن الغزو العراقي، ويضيف موضّحًا قال: "سأحمل معي مذكرات الفنان الفلسطيني إسماعيل شمّوط، وسأبتعد هناك لأرى الكويت وأراكم من خلف شوقي لكم!". امتدّت جلستنا لما بعد منتصف الليل، حدّثني عن فكرة روايته، وأنه ينشد وحدته في بُعد المكان، وشيء من اعتزال وصل الأصدقاء. وقال لي: "ابتعدت في سورية وابتعدت في مصر، وآن لي أن أبتعد في شرق آسيا" شعرتُ به يبحث عن خلوةٍ يستطيع بها كتابة رواية توثّق غدر الجار بموضوعية ودون تجنٍّ، وهو الذي احترق قلبه بفقد أخيه بدر، الذي استشهد دون أن نعثر له على أثر.

لا شيء يميّز إسماعيل بقدر عشقه للمغامرة، والمغامرة في كل شيء، لذا وجدته يقول: "تأخرت كثيرًا، غيرك بدأ بعدك ونشر أكثر من كتاب". توقّف لبرهة قبل أن يوضّح: "عندك مادة قصصية كبيرة وممتازة، ومن بينها يمكنك الاختيار، كما يجب عليك كتابة قصص جديدة تكون خالصة للمجموعة، فلا يصح أن تنشر مجموعة كاملة وقد نُشرت جميع قصصها".

كنتُ أنظر إليه بحبي وثقتي بخبرته، فهو إذ يدفعني للنشر يبصّرني بما يجب فعله: "اكتب أربع أو خمس قصص جديدة، وضعها إلى جانب بعض قصصك المنشورة: بيت العزاب، إن شاء الله سليمة، مجبور، أبو عجاج، والإنسان لا يموت...".

سرّني أن يحفظ إسماعيل عناوين قصصي، وأنا أقبّله عند الباب أخبرته: "سأجهّز مجموعتي، ولنا لقاء". ويبسم لي قائلاً: "تعال لي في الفلبّين!". حين عدت في اليوم التالي لتفحُّص قصصي المنشورة، واخترت من بينها حوالي 10 قصص، تحتم عليَّ كتابة أربع قصص جديدة لتكتمل المجموعة، وكما أنا اليوم أردد: مَنْ العبقري الفذ الذي يستطيع كتابة قصة متى ما أراد؟! ويحضرني لقائي الماضي بالقاصّ المبدع زكريا تامر في شهر أغسطس 2018، حينما شكت لي زوجته الغالية نادية أنه لا يكتب، فالتفت بودّه ولغته الآسرة رادًّا عليها: "لا أحد في العالم يكتب قصة قصيرة بقرار!"

نعم، أنا أستطيع أن أكتب مقالًا متى ما أردت، لكنّ القصة القصيرة تخضع لاكتمال ونضوح الفكرة في رأس الكاتب، وهي تتطلب لحظة تفريغ جدّ مناسبة، وأبدًا لا تأتي بقرار، فكتابة القصة ولادة، وأي جنين يجب أن يُكمل فترة حمله ليولد صحيحًا ومُعافى.

● طالب الرفاعي