● التدريس في الجامعة والمشاركة في التعليم والثقافة والمحاضرات والكتابة والتأليف، هذه الرحلة الممتعة وما صاحبها من تحديات وصعوبات، ماذا قدمت للدكتور مشبال؟

Ad

- كل أعمالي التي أنجزتها لا يمكن فصلها عن التدريس الجامعي، وعن أنشطتي العلمية في الندوات، والمؤتمرات، والكتب الجماعية. لم أفصل في حياتي بين الكتابة والتدريس. كنت أقرب إلى الأستاذ الذي يبدع ويفكر، مني إلى الأستاذ الذي يلقن الدروس؛ هذا جعلني أستمتع بعملي دون ملل، وإذا حصل أن نشرت عملاً فإنني لا أقوم بتدريس مادته؛ بل أثير أسئلة وإشكالات جديدة تجعلني أقبل على التدريس بشغف وحماس كبيرين. أنا في الحقيقة مدين في وجودي بهذه الحياة لهذه الكتابات، والمحاضرات، والإشراف العلمي على الرسائل؛ فهي لها فضلٌ كبير في تحقيق ذاتي، خاصة أنني لا أمارس أنشطة سياسية، أو أهلية يمكنها أن تمنح لوجودي معنى.

انخراط نقدي

● كيف تتلقى النقد الموجه لكتاباتك؟

- الباحث الحقيقي المؤمن بعمله والواثق من نفسه، ينظر إلى النقد باعتباره خطابا مكملا لخطابه؛ فالباحث لا يطور أفكاره إلا بوجود خطاب آخر مناقض حتى لو كان مفترضا من الكاتب نفسه. لكن للأسف الشديد لم تعد ثقافتنا العربية المعاصرة تنخرط في الممارسة النقدية؛ لأن البحث العلمي في العالم العربي لا يبنى على التفاعل والجدل، فلا نستغرب أن نرى باحثين لم يطلعوا على اجتهادات نظرائهم في الحقل الذي يشتغلون فيه، ولأجل ذلك تظل العديد من المشاريع العلمية يتيمة بحكم غياب بيئة علمية مثمرة.

هوية الجاحظ

● في كتابكم "خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ... مقاربة بلاغية حجاجية"، ما سر هذا الولع والافتتان ببلاغة الجاحظ؟

- الجاحظ جدير بالافتتان؛ فقد افتتن به القدامى، وعلى رأسهم "أبوحيان التوحيدي" الذي وصفه: بأنه اجتمعت فيه فضائل لا يمكن أن تجتمع في رجل واحد. لكن اهتمامي بالجاحظ لا يرجع في الأصل إلى افتتاني به، بل إلى سياق مشروعي العلمي الذي قادني إلى كتاباته؛ فقد كتبت عن النوادر التي ضمها كتابه "البخلاء" باحثاً عن بلاغتها، وبعد ذلك استكملت معالجة إشكال البلاغة في ارتباطها بأنواع الخطاب النثري العربي القديم بالبحث في الأخبار التي ضمتها مؤلفاته، ولكن ظلت كتابات الجاحظ النثرية غير السردية بحاجة إلى دراسة دقيقة؛ فكان كتاب "خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ" الذي حللت فيه رسائله العديدة من منظور بلاغي حجاجي. فواضح أن كتاباتي عن الجاحظ يفسرها سياق مشروعي العلمي في تطوير مقاربة بلاغية لأنواع مختلفة من النثر العربي القديم، وتقدم مؤلفات الجاحظ مختلف أشكال وأنواع هذا النثر.

تقنيات ومفاهيم

● ما الغاية التي توخيتها من كتابك الأول "مقولات بلاغية" في تحليل الشعر؟

- كتابي "مقولات بلاغية في تحليل الشعر" هو أول كتاب وضعته على طريق بناء مشروع تطوير البحث البلاغي العربي. كان خطوة أساس لتقديم البلاغة في شكل جديد في الثقافة العربية؛ إنها البلاغة المرتبطة بإشكالات الخطاب الأدبي القديم، والحديث. منها إشكال النوع؛ هل البلاغة نسق مجرد ومتعال؟ أم إنها انبثقت من نوع أو أنواع محددة؟ وهل يمكن تطوير بلاغات نوعية؟ ثم هل يمكن استثمار مجموعة من المفاهيم والتقنيات البلاغية في تحليل الشعر العربي القديم والحديث؟ باختصار، كان الغرض إخراج البلاغة من كونها نظرية في الوجوه الأسلوبية إلى كونها نظرية في الخطاب الأدبي بأسئلته. وهذا يعني أن قدر البلاغة اليوم أن تستفيد من الحقول المجاورة والنظريات النقدية القائمة.

مكانة راقية

● ماذا عن رؤيتكم للمشهد الثقافي المغربي اليوم؟

- الثقافة في المغرب تعيش أزهى فتراتها منذ الثمانينيات، في جميع حقولها المعرفية، والأدبية؛ فلسفة، ولسانيات، وبلاغة، ونقد، وشعر، ورواية... وقد استطاعت أن تفرض نفسها في المشهد الثقافي العربي، سواء في إقبال القراء على أعمالها أو في حصول كتابها على الجوائز الرفيعة. ولكن على الرغم من ذلك، فإنني لست متفائلا بمستقبل الثقافة المغربية في ظل استمرار تدهور النظام التعليمي بالمغرب. ومن المؤسف ألا يفكر المسؤولون على التعليم والثقافة في الحفاظ على هذه المكتسبات التي بوأت المغرب مكانة مرموقة ثقافيا في العالم العربي.

معايير

● نلتم العديد من الجوائز هل الجوائز في مصلحة الكتابة؟

- للجوائز وجهان أحدهما إيجابي والآخر سلبي؛ ويتمثل أولهما في أن الجوائز تكرم الباحثين الحقيقيين، وتميز أعمالهم من الأعمال الأقل قيمة؛ فهي من هذه الجهة، عندما تمنح للباحثين الحقيقيين، تسهم في الارتقاء بالبحث، والإبداع، أما الوجه السلبي فإنه يتمثل في كتابة بعض الباحثين كتبا خاصة للجوائز؛ ولاسيما التي لا تمتلك معايير تحكيم قوية؛ فيصبح من السهل على بعض محترفي الكتابة للجوائز الحصول عليها، وفي هذه الحال تختلّ القيم، وترتهن الأعمال الثقافية للجوائز بدلاً من أن تكون أعمالا أصيلة، وإذا لم تكن مؤسسة الجائزة تعمل وفق معايير تحكيم قوية، فإن آثارها السلبية على الثقافة ستكون باهظة الثمن، لأن القراء يقبلون على قراءة الأعمال الفائزة أكثر مما يقبلون على غيرها من الأعمال، وخاصة في مجال الإبداع الأدبي.

ميلاد بلاغي جديد

● ما الطموحات والمشاريع التى يعمل عليها د. مشبال هذه الأيام في مجال التخصص والأدب والنقد لترى النور قريباً؟

- على الرغم من أنني بدأت رحلتي العلمية في حقل البلاغة بالعمل في رسالة الماجستير في البلاغة العربية القديمة، إلا أنني لم أصدر سوى كتاب واحد في هذه البلاغة هو كتاب "البلاغة والأصول"، ومقالات ضمنتها كتابي "مقولات بلاغية"؛ ولأجل ذلك فإن إعادة قراءة البلاغة العربية القديمة من المنظور الذي طورته في كتاباتي في حقل البلاغة الجديدة سواء بالمعنى الذي أشتغل به أو بمعناها المعروف، يظل هو المشروع الأهم الذي أطمح لتحقيقه في أعمالي القادمة، بالإضافة إلى أعمال جماعية أكثر دقة مما ألفناه حتى الآن. وقريبا سنعلن ميلاد مجلة متخصصة في البلاغة أكون مسؤولاً عنها إلى جانب فريق من الباحثين الشباب.

«كورونا» والثقافة

● يعيش العالم اليوم جائحة كورونا... كيف ترى تأثيرها على مستقبل الحركة الأدبية والنقدية؟

-للجائحة وجه إيجابي واحد في حقل الثقافة، هي أنها سمحت بتنظيم لقاءات عديدة عن بعد من دون حواجز وتكاليف مادية مرهقة، أما وجهها السلبي فإنها حرمت الباحثين من اللقاء الحضوري والاحتكاك المباشر بجمهور المثقفين. واللقاء الحضوري حافز مهم للباحثين؛ فالندوات لا تقتصر أهميتها على ما يجري في الجلسات ولكن ما يدور خلفها، كما أن في التنقل إلى أماكن جديدة آثارا معنوية قوية في النفس تحفز الباحث على بذل مزيد من الجهد. كما حرمتهم الجائحة من التنقل للمكتبات والسفر للحصول على المراجع الجديدة، بل وأحدثت مناخا نفسيا لا يشجع على البحث العلمي من خلال الإجراءات الوقائية وأخبار الوفيات المتزايدة التي تطالعنا كل يوم في مواقع التواصل الاجتماعي.

● القاهرة - محمد الصادق