شهد لبنان، أمس، الاشتباك الأعنف منذ «أحداث 7 أيار» التي وقعت عام 2008، حين اجتاح «حزب الله» العاصمة بيروت ومناطق في الجبل، وهو الاشتباك الأول الذي يقع بين الحزب و«القوات اللبنانية» بشكل مباشر، ففي الحرب الأهلية (1975ـــ 1990)، لم تقع مواجهات بين الطرفين، ويمكن لهذا الاشتباك، القابل للتجدد في أي لحظة، إدخال لبنان في منعطفات أمنية وسياسية خطيرة، قد تصل إلى حد طرح تعديل النظام السياسي.

وتحولت شوارع بيروت، أمس، إلى ما يشبه ميدان معركة، ففي منطقة الطيونة الفاصلة بين الشياح وعين الرمانة، خط التماس التاريخي، اندلعت اشتباكات بين مناصرين لـ «القوات اللبنانية» وأنصار الثنائي الشيعي «حزب الله» وحركة أمل، أدت إلى سقوط 6 قتلى وعدد من الجرحى.

Ad

ورغم أن الأرضية غير مهيأة للدخول في حرب أهلية، فإن المشاهد المصورة على الهواء مباشرة أعادت ذكريات الحرب، وارتفعت خطوط التماس مجدداً، في ظل اشتباك أمني وسياسي بلغ مداه الأقصى، وهو ما ينذر بالمزيد من التصعيد.

واندلعت الاشتباكات على خلفية محاولة مجموعات تابعة للحزب والحركة اقتحام منطقة عين الرمانة التي تسكنها أغلبية مسيحية وفيها نفوذ لـ «القوات»، فتصدت مجموعات من الأهالي لها، وحصل إطلاق نار واشتباكات بالأسلحة الرشاشة والقذائف الصاروخية، في حين سارع الجيش اللبناني إلى التدخل لضبط الوضع، وانتشر بين المنطقتين.

«حزب الله» و«أمل» اعتبرا أن ما جرى عملية مدبرة مسبقة هدفها استدراج الأول لاستخدام سلاحه في الداخل، في حين اعتبر أهالي منطقة عين الرمانة أنهم يدافعون عن منطقتهم.

خلفية الإشكال جاءت بعد تصعيد الحزب في سبيل إقالة القاضي طارق البيطار الذي يتولى التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت، إذ يعتبر «حزب الله» و«أمل» نفسيهما مستهدفين بهذه التحقيقات، وسط معطيات لديهما بأن البيطار يتجه إلى اتهام الحزب وتحميله مسؤولية التفجير، وهو أمر لن يرضى به الأخير، وعليه عطل الحكومة بانتظار صدور قرار منها بتنحية البيطار عن القضية وتعيين قاضٍ آخر.

«حزب الله» و«أمل» اتهما القوات بشكل علني ومباشر بإطلاق النار على المتظاهرين، وبحسب ما تؤكد مصادر قريبة من الثنائي الشيعي، فإنه بعد الاشتباك، الذي أدى إلى وقوع شرخ طائفي إسلامي ـــ مسيحي، ويعتبره الحزب استهدافاً مباشراً له واعتداء على جمهوره ومناصريه، لم يعد من المسموح العمل على إيجاد حلول ترقيعية أو تسويات، فالحزب لن يتنازل عن مطلبه إقالة البيطار الذي يتهمه صراحة بأنه تسبب في إيصال البلاد إلى مشارف الحرب الأهلية.

قبل الاشتباك، كان العمل يجري للوصول إلى صيغة ترضي الجميع وتحفظ ماء وجههم؛ فيبقى البيطار بمنصبه، لكن يحقق مع المدنيين، في حين يتم التحقيق مع الرؤساء والنواب والوزراء من جانب المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، إلا أن هذه التسوية، بعد الاشتباك، أصبحت صعبة جداً، و لن يقبلها «حزب الله»، خصوصاً أنه يتهم خصومه بمحاولة نصب فخ له لاستدراجه إلى الشارع واستخدام سلاحه بالداخل، لزيادة الضغط عليه خارجياً.

هذا الخلاف حول التحقيقات أدى إلى وقوع شرخ كبير في المواقف بين الحزب ورئيس الجمهورية ميشال عون.

وتسارعت وتيرة الاتصالات السياسية، فزار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وزارة الدفاع، حيث استقبله وزيرها موريس سليم وقائد الجيش العماد جوزيف عون، ثم انتقلوا إلى غرفة عمليات قيادة الجيش لمتابعة مجريات الأوضاع من قائد الجيش وأعضاء مجلس القيادة.

وقال ميقاتي: «الجيش ماض في إجراءاته الميدانية لمعالجة الأوضاع وإعادة بسط الأمن وإزالة كل المظاهر المخلة بالأمن وتوقيف المتورطين في هذه الأحداث وإحالتهم على القضاء المختص».

كذلك انعقد اجتماع لمجلس الأمن المركزي، صرح بعده وزير الداخلية معلناً عن سقوط 6 قتلى وعدد كبير من الجرحى، متهماً «القوات اللبنانية»، بشكل غير مباشر، بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين، في موقف تعتبره «القوات» بأنه محاولة من وزير الداخلية لذر الرماد في العيون وتسديد فواتير لـ «حزب الله».

ونفت «القوات» رسمياً مشاركتها في الاشتباكات، وقالت إنها نتيجة الشحن الذي مارسه الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله ضد البيطار منذ أشهر.

وتتخوف «القوات» من أن يتحول الأمر إلى محاولة لاستهدافها في السياسة، وتكرار تجربة الاتهام الذي وجه إلى سمير جعجع بتفجير كنيسة سيدة النجاة، أي أن «القوات» تتخوف من نصب فخ سياسي أمني قضائي لها، لتوجيه ضربة قاصمة، بما أنها الطرف الوحيد الذي يعلن مواجهة «حزب الله».

وتقول مصادر القوات إنه لا يجب إضاعة البوصلة، فـ «حزب الله» هدفه إطاحة التحقيقات في تفجير المرفأ، وهو يفتعل الإشكالات الأمنية ويستفز الناس لاستدراجهم إلى اشتباكات مسلحة، بهدف الإطاحة بالتحقيقات وتخيير اللبنانيين بين استمرار التحقيق أو اهتزاز الاستقرار. وصدرت مواقف دولية عديدة شددت على ضرورة ضبط النفس ووجوب استكمال التحقيقات، من دون أي محاولات لعرقلة مسار التحقيق أو تخويف اللبنانيين، وهذه مواقف أكدت عليها فرنسا وأميركا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

دخل لبنان في مدار خطر ومتفجر؛ صحيح أن المساعي تبذل للملمة تداعيات الاشتباك، لكن الصراع السياسي سيبقى قائماً، واحتمال التفجير سيبقى قائماً أيضاً، خصوصاً أن الخلاف السياسي الكبير بين الفرقاء سيقود إلى طروحات كثيرة، منها ما يتعلق برفع منسوب الدعوات للذهاب إلى الفدرالية أو التقسيم، أو طرح مصير البلد ونظامه على طاولة البحث في أي لحظة يحين فيها موعد انعقاد حوار داخلي شامل برعاية خارجية.

إنها مرحلة جديدة محفوفة بالمخاطر، سيساكنها لبنان من الآن حتى موعد الانتخابات النيابية.

● بيروت - منير الربيع