قال الشعب القطري كلمته في يوم تاريخي مشهود، واختار أول مجلس تشريعي منتخب، في إقبال جماهيري كبير، بلغت نسبته 63.5% من الناخبين، وهي نسبة عالية بكل المقاييس، حتى كبار السن والنساء كانت مشاركتهم لافتة، فقدم صورة مشرفة للعالم في أول تجربة انتخابية نيابية، اتسمت بالشفافية والنزاهة والسلاسة عبر مراحلها كافة، بدءاً من تسجيل من يحق لهم الانتخاب قانوناً، مروراً بالتنافس الانتخابي (234 مرشحاً بينهم 28 مرشحة)، وصولاً إلى يوم الحسم والتصويت، لا تجاوزات، لا مخالفات،

لا شراء للأصوات، لا انتخابات فرعية، لا مشاحنات، لا تدخلات من الحكومة، لا اتهامات متبادلة، لا وعود زائفة، الكل التزم بالإجراءات الانتخابية والاحترازية.

Ad

يأتي مجلس الشورى المنتخب تجسيداً لما تضمنه الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه 2003 وحظي بموافقة شعبية بلغت 97% من المواطنين، وصدر في 2004، بحيث مجلس للشورى يتولى وضع التشريعات، ويمارس الرقابة على السلطة التنفيذية، ويقر الموازنة العامة، وقد حرص المشرع الدستوري على تحديد نطاق رقابة المجلس على السلطة التنفيذية في وزارات الدولة والأجهزة المتفرعة عنها، ولا تمتد إلى الهيئات والأجهزة الخاصة التي يشكلها سمو الأمير لتعينه بالرأي والمشورة على توجيه السياسات العليا للدولة، كالمجلس الأعلى للدفاع، ومجلس الأمن القومي، والمجلس الأعلى لاستثمار احتياطي الدولة.

تكوّن المجلس من (45) عضواً، (30) ينتخبون انتخاباً مباشراً من الشعب، و(15) يختارهم سمو الأمير، وعلى هذا فإن مجلس الشورى القطري يتكون من ثلثين منتخبين وثلث معين، وثمة تساؤل مهم هنا: لماذا اختلفت التجربة الديموقراطية القطرية عن التجربتين العمانية (مجلس عمان) المكون من مجلسين "الشورى" المنتخب و"الدولة" المعين، والكويتية (مجلس الأمة) الذي يشكل الوزراء فيه ثلث المجلس؟

والجواب، أولاً: التجارب الديموقراطية للمجتمعات ليست مسطرة واحدة، فالمجتمعات تختلف ثقافياً وتاريخياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وموقعاً جغرافياً وجيوسياسياً، كما وضحه بحق المفكر الكويتي د. الرميحي في مقاله القيم (الانتخابات القطرية).

ثانياً: إذا كان لموقع الدولة الجغرافي من تأثير، فإن دولة قطر بحكم موقعها الجغرافي الوسطي في الخليج، تمثل الوسطية، سياسة ومجتمعاً وثقافة، ومن هنا كان حرص المشرع الدستوري على أن تكون التجربة الديموقراطية القطرية تجربة وسطية، لا إفراط ولا تفريط، لا إفراط في رقابة معطلة للمسيرة التنموية كما في تجارب أخرى، ولا تفريط أو تهاون في حزم الرقابة على وزارات الدولة وأجهزتها التنفيذية، ومكافحة الفساد والانحراف.

وحتى ندرك أهمية وتميز التجربة القطرية الجديدة لتفعيل قاعدة الشورى المأمور بها قرآنياً "وأمرهم شورى بينهم"، "وشاورهم في الأمر" علينا توضيح أن مجلس الشورى القطري بصيغته المعاصرة إنما حسم (4) قضايا جدلية عالقة في الفكر السياسي الإسلامي على امتداد (14) قرناً وحتى يومنا، هي:

1- هل الشورى واجبة على الحاكم أم مندوبة؟ قضية ما زالت جدلية.

2- هل الشورى ملزمة، بمعنى الرأي الذي يحظى بأغلبية 51% من الأصوات، هل هو الرأي الراجح الذي تلتزم به الحكومة وتنفذه أم لها ألا تتقيد به؟ قضية محل خلاف.

3- هل الشورى مقتصرة على أهل الرأي والعلم والاختصاص وكبار القوم والأعيان أم هي عامة لجميع الشعب؟ قضية غير محسومة.

4- هل تجوز عضوية المرأة في مجلس الشورى؟ قضية جدلية.

جاء مجلس الشورى القطري ولأول مرة في تاريخ الدول العربية والإسلامية ليحسم هذا الجدل ويقرر أن الشورى قاعدة واجبة، وأن رأي الأغلبية ملزم، وأن الشورى لجميع المواطنين المستحقين قانوناً، وأن المرأة مواطنة ومن حقها عضوية المجلس كأخيها المواطن.

جاء الدستور القطري الدائم ومجلسه المنبثق منه ليفعل الشورى الإسلامية في صيغة سياسية تجمع بين الأصالة في أسسها وقيمها وأهدافها وروحها انطلاقاً من تعاليم الإسلام السامية، والمعاصرة في آلياتها ووسائلها ومظاهرها ونظمها، ولهذا فضلت دولة قطر اسم الشورى لمجلسها التشريعي دون غيرها من التسميات، اعتزازاً بأصالة اسم الشورى في التاريخ الإسلامي، والتزاماً بالاسم الوارد في القرآن الكريم، وتفعيلا للشورى قاعدة في نظام الحكم. يتبع،،،

* كاتب قطري

د. عبدالحميد الأنصاري