لم يكن في صالة العزاء بمقبرة الصليبيخات ظهر يوم الثلاثاء الماضي سوى "العبد الفقير" كاتب هذه السطور وعامل النظافة البنغالي ذي البدلة الصفراء، عندما ظهر اسمه على شاشة المتوفين: "محمد الأسعد الحردان". اندفعنا أنا والصديق يوسف المباركي وثلة من معارف الفقيد لا يتعدون أصابع اليد، للمشاركة بحمل النعش إلى حيث المرقد الأخير.

لحظة النزول إلى التراب شعرت بالرهبة ونحن نتشارك بالدفن، لا شعورياً أقمنا سوراً بشرياً لا يعرف أحدنا الآخر، تتناقل أيادينا كتلاً من الطين المخلوط بالماء نغلق فيها فتحات القبر، ثم نكمل ذلك برد التراب مودعين إياه. ونحن نستعد لتقبل العزاء في الصالة إذ بالزميل والشاعر حمود البغيلي ينتصب أمامنا بالرغم من الألم الذي يعانيه في ظهره ورقبته، قائلاً: "وجدت نفسي فجأة في المقبرة، لم أقو على الغياب في هذه اللحظة الفارقة بحياتنا لوداع رفيقنا الأخير".

Ad

من "أم الزينات" في جبل الكرمل بفلسطين كانت عيناه تتفتحان على الدنيا في الأربعينيات من القرن الماضي، تلك القرية التي رسمها لنا في أحاديثه وشوقه إليها وهي كالمنبت الذي حفر فيه اسمه ليدلل بها على هويته التي كان على الدوام يستحضرها في أدبياته في صراعه مع "المستعمر" الذي أراد أن يزور حقائق التاريخ والجغرافيا انطلاقاً من النص التوراتي الذي استلمه المستشرقون عن بلاده.

سيرة محمد الأسعد هي سيرة الفلسطيني المهجّر من أرضه، جاء إلى العراق ثم رحل، انتقل إلى بلغاريا وقبرص والشام، ثم عاد إلى الكويت، بقي هنا وارتبط بها، حمل اسماً أدبياً يعرّف فيه عن نفسه "محمد الأسعد" لكن اسمه في جواز السفر الروسي هو "محمد أسعد الحردان" والأسماء تبقى في الذاكرة مهما تبدلت الجوازات التي تسمح له بالسفر والتنقل، علاقتنا به امتدت إلى نحو ربع قرن، وعلى مسافة قريبة جداً من أفكاره وإبداعاته وكتاباته.

كنا نجلس مطولاً في (القبس) نتبادل الآراء في همومنا المشتركة، فما يميز "محمد الأسعد" أنه ابن قضية وطنية، لديه قناعاته التي لم تكن تتماشى أبداً مع القابضين على السلطة الفلسطينية من أيام أبوعمار ومعظم القيادات الفتحاوية إلى أيام أبو مازن وجماعته... مثقل بأبناء الأرض دون مواربة، في محطته الأطول في الكويت أنتج أعمالا شعرية وبحثية ونقدية وروايات تشكل رصيده الفكري وهي أعمال مدونة ومعلنة.

عمل في الصحافة الكويتية منذ بداية السبعينيات وتسلم عدة مواقع: محرر ثقافي، سكرتير تحرير، رئيس قسم ثقافي، كاتب عمود يومي، أسهم في كتابة وإذاعة أحاديث وبرامج لإذاعة الكويت، وله دراسات وترجمات منشورة في دوريات عربية، أعماله الشعرية (الغناء في أقبية عميقة، حاولت رسمك في جسد البحر، لساحلك الآن تأتي الطيور، مملكة الأمثال، أما في مجال الرواية فقد أصدر: أطفال المدى (وبعدة لغات)، نص اللاجئ، حدائق العاشق، شجرة المسرات، أصوات الصمت، وفي الأبحاث النقدية، نذكر: مستشرقون في علم الآثار، الفن التشكيلي الفلسطيني، بحثاً عن الحداثة، مقالة في اللغة الشعرية، حوار مشترك بين لاجئ ومهاجر، إضافة إلى أعماله في الترجمة).

سيرته أبعد من الجدران التي رسمت في مدفنه، تبدو من اللحظة التي نزح فيها من قريته وهو طفل مع عائلته ومع من تبقى من سكانها أحياء، إلى منطقة "جنين" ومن هناك أخذتهم قوات الجيش العراقي المنسحبة إلى بغداد، عاش الكاتب وعائلته لاجئين في العراق، وهناك تعلم وأكمل تعليمه الأكاديمي ثم يبدأ حياته الثقافية شاعراً وناقداً وباحثاً قبل الرحيل إلى الكويت واستقراره فيها ليواصل حياته المهنية في عالم النشر والصحافة.

في كتابة "مديح البياض، في الخطاب الفلسطيني الممنوع" يستهل صفحاته بمرثية موجهة إلى ناجي العلي، نقرأه فيها وكأنه أمامنا:

أنتَ خلَّيتني في اللغاتِ جميلاً

أنتَ خلَّيتني

ومضيتَ

أليس قليلاً إذا ما انزوى الموتُ عنا

أليس قليلاً؟

أيها المدهشُ المتجاهلُ أن لنا موعداً".

حمزة عليان