ما زلتُ أرى تلك النظرة المستقيمة تحتل وجه معلّمي عبدالمحسن البراك، وقد أعاد عليَّ سؤاله: "ماذا ستفعل بقصصك التي تُنشر؟". استفسرت منه عن مقصد سؤاله، فأوضح بنبرة صوته الهادئة: "هل ستكتفي بنشر قصصك في الجرائد؟". بدأتُ أنظر إليه وقد تراكضت أسئلة كثيرة في رأسي، وصوته: "عادة يبدأ الكتّاب بنشر أعمالهم في الجرائد، قبل أن يتحوّلوا لنشرها في كتب!".

"تريدني أن أنشر كتابًا؟"، سألته، فابتسم، وبعث يقول: "لست من يُريدك، أنا أسألك". هي الحياة تقدّم للإنسان رسائلها، وعليه أن يمسك برأس خيط تلك الرسائل كي يتأمله بهدوء وتفكير، ويتخذ قراره حياله.. ولحظة فكّرت بنشر كتاب انتابني خوفٌ ما عرفته من قبل، وحامت أسئلة كثيرة فوق رأسي: ستنشر كتابًا، وسيكون طوقًا في رقبتك! ستنشر كتابًا ولن يمكنك ما حييت أن تتفكك مما جاء به! إذا كُنت تنشر قصةً على صفحة جريدة يأكل الناس عليها وتُطوى لتُرمى في القمامة، فإنّ وضع الكتاب مختلف! ستنشر كتابًا ويكون متاحًا للنقاد في كل وقت وزمان! عصفت بي أسئلة خوفي، ووجدتني أقف محتارًا، وكم زاد خوفي يوم امتنعت عليَّ كتابة القصة القصيرة!

Ad

أذكر ذلك جيداً، لأنه جاء لاحقًا لتحرّر الكويت من العدوان العراقي الغاشم. وبقيت حوالي نصف السنة أقلّب الأمر صمتًا في رأسي، وبيني وبين نفسي. وكم كانت مفاجأتي كبيرة، حين كنت أزور رابطة الأدباء الكويتيين، وإذ بالدكتور سليمان الشطي يشير إليَّ: "تعال". انتحى بي في زاوية وأخبرني بنبرة صوته الجادة والرصينة: "أعدُّ كتابًا نقديًّا عن القصة القصيرة في الكويت، وأستند في هذا الكتاب إلى المجاميع القصصية الصادرة في كتاب، وأنا بودّي أن تكون ضمن هذه الدراسة، فماذا تنتظر لتطبع قصصك في كتاب؟".

في البدء كان البراك، وها هو د. سليمان الشطي يردد عليَّ الأمر نفسه. رحت أنظر للدكتور سليمان، ولا أدري كيف خرجت كلمتي: "سأفعل!". في تلك الليلة، وحين عدت إلى بيتي فرشت أمامي قصصي التي بدأت بها عام 1978 وحتى عامي ذاك 1991، ثلاث عشرة سنة مرّت عليَّ وأنا أكتب القصة القصيرة في الجرائد والمجلات الكويتية والعربية متهيّبًا النشر في كتاب، وألزم نفسي بوعدي أمام د. الشطي، اتصلت بالبراك لأقول له: "قررت أن أنشر مجموعتي القصصية الأولى!". ولأنني أهتم كثيراً لرأيه، فقد بقيت أنتظر ما سيردّ به، وبعد ثوان من الصمت بيننا قال: "سنلتقي ونتحدث في الأمر!". حين جلسنا أفهمني بأهمية النشر في كتاب، ووحده الكتاب مَن يخلّد جهد الكاتب وعمله. وأنه من الصعب على الناقد والدارس تتبّع آثار الكتّاب من على صفحات الجرائد، وأنا هنا أتكلم عن عصرٍ، يبدو بعيدًا جدًا، بالرغم من قربه الزمني، لكن في تلك الأعوام، لم تكن محركات البحث على شبكة الإنترنت متاحة كما هي اليوم، ولا كانت المواقع المتخصصة، ولا كان مرجع البشرية، العلّامة "غوغل"، موجوداً، وبالتالي، فإن وضع الكتاب كان مختلفًا.

عدتُ من جلستي مع أبي براك، وقد قفزت أمامي جملة لتمسك بي: الكتاب الأول هو جواز سفرك للقارئ، وعليك تحسين صورتك فيه، وإلا فصعب عليك في الكتاب التالي أن تقنع قارئًا نفر منك في قراءته لكتابك الأول! أخافني الأمر كثيرًا، لكنني بدأت بإعداد قصصي لأبعث بها للناشر. ولحظتها لاح لي طيف السحر نفسه الذي قابلني في كافيتيريا كلية الهندسة والعلوم، يوم نشرت قصتي القصيرة الأولى. الطيف نفسه عاد يعرض إليَّ، وراح يُشير لي بالعبارة نفسها: تعال! مسافة صغيرة بقيت لك، وتكون كاتباً، وتكون مشهوراً، وتكون حديث المجالس الأدبية، وتُصدر كتباً، وتكون حلم كل فتاة! وتكون، وتكون، وتكون.. رحت أنظر إليه وأنا أفرش قصصي، وأهمس لنفسي قائلاً: سأتبع حلمي!

● طالب الرفاعي