تعتبر التجارة في الكويت عصب المحيا والازدهار، ويمثّل الاقتصاد إكسير الحياة والاستمرار، وكلاهما، إضافة إلى كونهما من أبرز مكونات الهوية الوطنية للمجتمع الكويتي، يشكلان- مثل مركب البحر وسفينة الصحراء- وسيلة العبور للتنمية وشعار الانفتاح على المجتمعات الأخرى، وأداة التحصين ضد "جوائح" الزمان وأزماته المتكررة.

ولحسن الأقدار فطن الآباء المؤسسون لأهمية بناء هيكل اقتصادي يأخذ بالاعتبار ما درج عليه الأجداد وما توارثه الأولاد والأحفاد من احتراف لمختلف الأنشطة التجارية والاقتصادية، وذلك من خلال تثبيت منظومة الأسس الدستورية التي تتناسب مع خصوصية المجتمع الكويتي.

Ad

فقليلة هي الدساتير في العالم التي تجاري الدستور الكويتي فيما يخصصه من حيز معتبر لتثبيت الصلة الوثيقة بين المجتمع والتجارة بكل ما يرتبط بها من مبادئ اقتصادية وأسس تنموية، وذلك انطلاقا من أن للتجارة في واقع الكويت "مكان الصدارة في أعمال المواطنين"، كما ورد حرفيا في المذكرة الايضاحية للدستور.

لقد كرس الدستور الكويتي الثلاثية الذهبية المتمثلة "بالملكية"، و"رأس المال" و"العمل" كأبرز "مقومات للثروة الوطنية ولكيان الدولة الاقتصادي"، وكأهم الحقوق الفردية ذات "الوظيفة الاجتماعية".

وفي السياق كفلت النصوص الدستورية حق "تكوين رأس المال وادخاره أو تنميته واستثماره"، دون أن يؤدي ذلك إلى "غلواء وتسلط"، الأمر الذي يترافق مع حظر الاحتكار الذي لا يجوز منحه "إلا بقانون وإلى زمن محدد"، ومع التزام الدولة بتشجيع "التعاون والادخار" والإشراف على "تنظيم الائتمان".

فالـ"ملكية" و"الثروة الخاصة" التي يكوّنها المرء من مردود عمله المشروع، أو تجارته الحرة، أو تلك التي قد تصل إليه بالإرث، مصونة بموجب أحكام الدستور، فـ"لا يمنع أحد من التصرف في ملكه إلا في حدود القانون، ولا ينزع عن أحد ملكه إلا بسبب المنفعة العامة في الأحوال المبينة في القانون، وبالكيفية المنصوص عليها فيه، وبشرط تعويضه عنه تعويضا عادلاً"، كما أنه لا تجوز "المصادرة العامة" إلا كعقوبة تصدر بحكم قضائي، الأمر الذي يتواءم في المقابل مع حرمة "الأموال العامة" التي اعتبرت أحكام الدستور أن "حمايتها واجب على كل مواطن".

أما "الثروات الطبيعية" فقد ألزم النص الدستوري الدولة بـواجب حفظها وحسن استغلالها "بمراعاة مقتضيات أمن الدولة واقتصادها الوطني" أخذاً بالاعتبار دور "الثروة أو المورد في الاقتصاد الوطني ضمن المخطط العام للتنمية الاقتصادية"، وفي السياق يفرض النص وجوب موافقة السلطة التشريعية- كممثل للأمة- على "كل التزام باستثمار مورد من موارد الثروة الطبيعية أو مرفق من المرافق العامة"، بحيث يكون ذلك بقانون ولزمن محدود، وبضمان "تحقيق العلانية والمنافسة" في كافة الإجراءات التمهيدية ذات الصلة.

كل ذلك يتكامل مع تسليط الضوء الدستوري على "العدالة الاجتماعية" كأساس لكل من الضريبة، والتكاليف العامة، والاقتصاد الوطني الذي قوامه "التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص"، وهدفه "تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطنين"، والذي تتكون معالمه من خلال تنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب العمل كترجمة عملية لحق العمل الذي اعتبره الدستور حقاً وواجباً على كل مواطن "تقتضيه الكرامة ويستوجبه الخير العام".

وانطلاقا من دور الرعاية للدولة، وتلافياً لإمكانية تدخل أركان السلطة التنفيذية في النشاط الاقتصادي، ودفعاً لمظنة أي استفادة أو تربّح قد ينتج عن تجاوز حدّ السلطة، حظر الدستور على الوزير، أن يزاول أثناء شغله لمنصبه- ولو بطريق غير مباشر أو بواسطة أشخاص يعملون باسمه أو لحسابه- "مهنة حرة أو عملاً صناعياً أو تجارياً أو مالياً، أو أن يسهم في التزامات تعقدها الحكومة أو المؤسسات العامة أو البلديات أو أن يجمع بين الوزارة والعضوية في مجلس إدارة أي شركة، ومن باب أولى أن يتولى رئاسة مجلس الإدارة فيها"، كما حظر عليه "أن يشتري أو يستأجر مالاً من أموال الدولة ولو بطريق المزاد العلني، أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئاً من أمواله أو يقايضها عليه".

يتبدّى من كل ما سبق خطيئة التقاعس في جهود التنمية الاقتصادية، وخطورة الانجراف في حملات التشكيك بكل ما يتصل بالتجارة وما يرتبط بها من مبادرات ومؤسسات، وهذا لا يعفينا من أهمية الالتزام بالقيم والتقيد بالأعراف واحترام النصوص، إذ إن سقطات البعض لا تشمل الكل، ونجاحات الكل لا تشمل البعض.

* كاتب ومستشار قانوني

● د. بلال عقل الصنديد