ترجل من سيارته أمام دكان في بلدة "الدامور" الساحلية وهو في طريقه إلى مدينة صيدا ليشتري زجاجة ماء، سأله صاحب الدكان، تريدها باردة أم عادية، استفسر الشاري عن السبب، قال الباردة أغلى من العادية بخمسة آلاف ليرة، لأنها تحتاج إلى كهرباء زيادة لتبريدها بوضعها في الثلاجة! فأدار وجهه إلى الأعلى وراح يتمتم بكلمات موجعة بحق "زمرة الحاكمين والفاسدين الكبار" الذين أوصلوا البلد إلى هذا الدرك من السقوط، صورة لبنان على الأرض هي بخلاف ما نسمعه أو نقرأه، تتغير كل يوم بعدد ساعات النهار مثلما هي حال تأليف الحكومة، كل يوم بيومه!

لم يبق في وجوه من "يدير البلد" شيء من الخجل والحياء، لا بل من الكرامة الوطنية، فهم منغمسون حتى النخاع في تدميره إلى الرمق الأخير، وكل هذا بات في العلن، والمشكلة تكمن في الوجه الآخر من الأزمة، ولدى طبقة أكثر فساداً وطائفية من الزمرة الحاكمة، هم الصورة البشعة لزعمائهم وهؤلاء يتاجرون بقوت الشعب وحياته ومعيشته وعلى عينك يا تاجر.

Ad

الذين اضطرتهم الظروف إلى السفر هذا الصيف عادوا بانطباعات مخيفة، لبنان الذي نعرفه انتهى، هناك لبنان آخر وهو يتهاوى يوماً بعد آخر، تجار محميون بالرشوة وبغيرها، يتلاعبون بقوت الناس ورغيف الخبز وتنكة البنزين وقنينة الغاز وحبة الدواء، طالما أن الدولة غائبة والرقابة معدومة، ولا أخلاق أو قيما أو مخافة من الله.

من يخرج ليلاً إلى بيروت أو الجبل سيفاجأ بما يراه: مطاعم وملاهٍ حتى ساعات الفجر مكتظة بالزبائن والدفع كاش وبالدولار، هذه طبقة اجتماعية ما زالت تسهر وتبيع وتشتري كما لو أن لبنان بألف خير، لا فقر فيه ولا ذل! وقسم كبير من المغلوب على أمرهم، أي من غير الزعران والشبيحة والأزلام السائرين في ركب زعماء الطوائف، يعانون الأمرين بتأمين احتياجاتهم المعيشية كي يبقوا على قيد الحياة.

من يدفع ثمن تآكل الدولة هم الطبقة المسحوقة والمعدومة والصامتة وغير المنتمية إلى (مزارع الفاسدين الطائفية)، هؤلاء وصلوا إلى مرحلة اليأس بحيث لم يعد باستطاعتهم التظاهر أو التعبير عن رفضهم للحالة المزرية التي يعيشونها، وبالكاد يقفون على أرجلهم، فهم مطحونون إلى درجة "الموات".

المستفيدون اليوم من الأزمة في لبنان هم "وقود" الطبقة الفاسدة والمتحكمة بمصير البلد، فقد تربوا ونشؤوا في بيئة "التبعية" من الصعب أن تصحو هذه المجاميع من غفلتها على الواقع المزري الذي انحدر إليه الوضع، فقد أدمنت على هذا النمط الفوضوي.

لبنان اليوم على شفا الهاوية، أي فتنة طائفية قد تشعل ما تبقى منه، وقد تكون البداية من شلة الزعران والتابعين لأصحاب المزارع المذهبية.. رأيناها تتنقل من خلدة إلى عكار ومن مغدوشة إلى حاصبيا ولولا الجيش البطل لكنا نشهد هذه الأيام اقتتالاً داخلياً مريراً. لم تعد الصيغة السياسية القائمة على محاصصة الطوائف في كل شيء تصلح لهذا البلد، ولا ارتهان الطوائف إلى الخارج كأنهم أدوات رخيصة بأيدي اللاعبين الكبار، وسواء نجح الرئيس نجيب ميقاتي في تشكيل حكومة أو اعتذر، فالمسألة ستبقى في حدود الترقيع، والمكتوب يقرأ من عنوانه، فمن قرأ هذا العهد جيداً يدرك أن رافع شعار إلى جهنم ومن معه أو يسانده أو يغطي عليه أو يتحالف معه كان صادقاً بقوله!

كل يوم يمر في حياة هذا البلد يشعرك أنك أصبحت غريبا عنه. لقد تبخرت أحلامنا مثلما تبخرت أموالنا في المصارف! حتى الرجاء والأمل كادا يموتان! فأين يكمن الحل؟ سؤال يقفز إلى الواجهة سريعاً، هل الوصاية الدولية كفيلة بانتشاله من هذا المستنقع؟ أم "ثورة" من الداخل تنقله إلى مصاف الدولة والمواطنة وتحصنه من الاقتتال والحروب وتستفيد من الأخطاء التي وقعت فيها في المرة الأولى بعد أن تم الإجهاز عليها؟ أم بتوافق دولي إقليمي يفرض "حلا سياسيا" عن طريق تعديلات جديدة بالنظام السياسي يؤهله لأن يحكم نفسه بنفسه؟

● ‏‫وحمزة عليان