بيروت التي يقال تاريخيا إنها دمرت سبع مرات، اعتادت أن تنهض مجددا كلّما هُدمت أو غَرقت أو احترقت، حالها كحال طائر الفينيق الذي تقول الأسطورة إنه قام من بين رماده.

«ست الدنيا» هذه تعيش منذ ستة عشر عاماً تداعيات انفجارين مهولين بدّلا كيانها وأخلّا بموازينها وسرقا منها فرحتها وراحة بال أهلها، فمنذ استشهاد رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في «وسط بيروت» الذي يرتبط اسم الشهيد نفسه بإعادة إعماره، يعيش اللبنانيون أزمات متلاحقة وغير اعتيادية... وها هو الانفجار «الزلزال» يطيح بمرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، لترتعد معه العاصمة اللبنانية خوفاً ودمعاً وألماً، ويهتز الاستقرار اللبناني بأسره الى حد الوصول إلى القلق الفعلي على مصير الدولة والكيان!

Ad

التفاصيل السياسية والقضائية والأمنية المرتبطة بانفجار المرفأ كثيرة ومعقدة؛ فعلاوة على الأبعاد الخارجية والدولية لهذا الحدث الجلل، والتي لا تزال متأرجحة وغامضة، فقد نتج عن الانفجار في الساحة المحلية دويّ عال ومرعب، يعلن ثلاثية «انهيار» حتمي قوامها: الفساد السياسي، الترهل الإداري العجز القضائي.

سواء أكان انفجار مرفأ بيروت يشكل جزءاً من «المؤامرة الكونية» التي يحلو للبعض أن يلصق بها كل موبقات الداخل، أم كان نتيجة منطقية لثلاثية الانهيار، فلا خلاف أن ثالث انفجار غير نووي في العالم قد يفوق خطورة على مستقبل لبنان الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس الشهيد.

السبب في هذه الخطورة ليس لأن العصف قد دمر أكثر من ربع العاصمة اللبنانية وشلّ أهم وأول مرفق اقتصادي فيها منذ حكم الإمارة «المعنية» فقط، بل لأن انفجار عام 2005 كان هدفه المباشر الاغتيال السياسي مما أخذ تداعياته المحلية- رغم خطورتها وأهميتها- بالاتجاه السياسي والانتخابي، في حين أن انفجار المرفأ تزامن مع غضب شعبي وتحلل مالي وانهيار اقتصادي لم يشهد تاريخ لبنان نظيراً لها، مما صعّب المهمة على الطبقة الحاكمة بإمكانية الاستفادة من تداعياته شعبياً وانتخابياً رغم المحاولات الكثيرة في هذا الصدد.

يضاف الى ذلك أن شخصية الرئيس الشهيد، بما تمثله من مرجعية مذهبية محلية وثقل دولي وازن، حوّل اغتياله- وقد يكون ذلك مطلوباً ومخططاً- الى مادة نزاع سياسية محلية بأبعاد خارجية ارتدت ثوب المحكمة الدولية، الأمر الذي يصعب استنساخه حرفياً في حالة انفجار المرفأ الذي هزّ لبنان كله، والذي– رغم بعض المحاولات- لا يمكن وضعه في خانة طائفية أو مذهبية معينة.

فقد ينجح الساسة اللبنانيون، الغانمون حرباً وسلماً من رذائل الطائفية، في محاولات الاستفادة من الانفجار ببعض المكاسب الانتخابية أو السياسية المحلية، وقد ترتفع بعض الأصوات منهم بمحاولة تدويل– أي تمييع- التحقيق فيه، ولكن الثابت في نهاية المطاف أن تعقيدات المرحلة كانت أكبر من أن تمكّنهم من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في مسار الانهيار الذي يتحملون الجزء الأكبر منه والذي سيجرّهم معه في سيله العارم الى حيث يستحق الكثير منهم.

لا شك أن «الانفجار» ليس هو السبب الرئيس «للانهيار»، ولكنه يشكّل الحلقة الأبرز والأشد وقعاً من مسلسل التآكل الذاتي الذي غذّته طفيليات الترهل المحلي وآفات التدخل الخارجي، وهنا يأتي دور «الاختيار».

فالمتتبع للشأن اللبناني بأبعاده الواسعة التي تتخطى «التسلية» ببعض المماحكات المحلية الخاصة بالتكليف والتأليف و«تناتش» المكتسبات والحقائب، يدرك أن المرجّح قيام المجتمع الدولي، لأسباب خاصة به ترتبط قبل كل اعتبار بالأمن الإسرائيلي، بفرض حالة من اللا استقرار واللا انهيار في لبنان، من خلال الضغط لإجراء انتخابات نيابية توقف الهبوط الحر نحو قاع القاع وتحدد المستقبل اللبناني للعقود المقبلة.

فأي تحرك شعبي يترافق مع الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت، لن يشكل في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة سوى نافذة مشروعة للتعبير ومتنفس طبيعي للغضب ومحاولة تصاعدية للتأثير والتغيير، ولكن التجربة علمتنا أن نتائجه ستبقى، كما كل السوابق، أقل من الطموحات إن لم نقل أسوأ من حدها الأدنى!

الحراك الشعبي والنشاط المطلبي رغم أهميته القصوى، ورغم تسجيله خرقاً مهماً يتمثل بزعزعة استقرار الطبقة السياسية، فشل في ذروة ١٧ أكتوبر ٢٠١٩ في تحقيق التغيير المطلوب، فبغياب قائد ملهم وعدم وجود رؤية موحدة للمطالب والأولويات، ومع سهولة جرّ الأمور في هذا البلد المسكين لأزقة الطائفية وشراسة الأحزاب والتيارات في المدافعة عن مصالحها وتقاسم السلطة، لن يتبدل حال اللبنانيين إلا بانتخابات نزيهة وشفافة قد يشرف عليها المجتمع الدولي.

المجتمع اللبناني في هذه اللحظة المفصلية من تاريخه هو أمام اختبار «الاختيار»؛ فإما أن يختار التغيير وإما أن يستسلم لقهر البقاء في قعر «التعتير».

الصندوق الانتخابي هو الخلاص... والرهان على الوعي الجماعي، والعبرة بنتيجة الاقتراع لا بالشعارات، وبالأفعال لا بالأقوال.

د. بلال عقل الصنديد