لا أحد يعرف الصيف كما الخليجي الذي عاصره وتعايش معه بعض الشيء ربما بمساعدة العديد من العوامل ومنها بالطبع التكنولوجيا المتقدمة في التكييف والتبريد والمراوح وكل فنون العصر التي حولت بعض الصحراء الى بعض الخضار أو ما يشبهها، رغم أن صيف الخليج لم يكن كما هو الآن وكثيرون منا يحملون صوراً في الذاكرة للنوم فوق أسطح المنازل والغطاء "الململ" المبلل بعض الشيء فيكون هو مكيف ذاك الزمن بمساعدة بعض نسمة وكثير من الخيال والقناعة وسماء تزينها نجوم وكواكب وأقمار.

وفي الخليج كانت هناك مصايف أيضا كما في الدول العربية الكبرى، فيرحل بعضنا الى هناك، يقتربون من البحر حد التلاصق ويمضون النهارات الساخنة بعيداً عن حرارة الشمس وفيما تبعد الشمس قليلا يغتسلون بماء بحرهم، هكذا كان الصيف ربما في سنوات ما قبل النفط وطفراته عندما كانت الحياة بسيطة جداً والأيام تمضي في بعض الرتابة الجميلة والوقت كل الوقت ملك الفرد وحده.

Ad

في تلك الأيام التي تبدو الآن وكأنها من نسج الخيال أو أنها مادة لبعض المسلسلات الخليجية السمجة التي شوهتها كثيرا وحولتها إلى "كليشيهات" أحيانا! في تلك الأيام كانت حدودنا هي الشواطئ والبحر يحيط بنا من كل مكان كيف لا ونحن بين كل الدول الست نحمل لقب جزيرة.

كبرنا وبقي بعض البحر ملازماً لنا، فالطريق الى المدرسة يمر بالبحر أو يعبر الجسر الوحيد حينها وفي المساءات نذهب كعائلة في جولة بالسيارة محاذية للبحر أيضا أو نجلس بالقرب منه، هكذا كنا نحن سكان المدن أما بنات الريف وأولاده- يستغرب كثير من الأصدقاء العرب عندما نتحدث عن الريف والمدينة في دول الخليج– فهؤلاء تلاصقت حياتهم بماء البحر فهو مصدر رزقهم وهو ملعبهم ومسبحهم العام ووسيلة ترفيههم بل هو كل حياتهم.

مضت بضع سنين ارتحل كثيرون منا للدراسة الجامعية خارج الأوطان فلم تكن الخيارات متوافرة وكانت جامعات العرب بأجمعها تفتح فصولها ومساكن طلابها للقادمين من مدن الملح بكثير من الترحاب بل في الكثير من الأحيان بمنح ومعاملة شبيهة لمواطنيهم، وهذا الآخر أمر ينساه البعض أو يتناسونه رغم أنه راسخ في ذاكرة الكثيرين من خريجي المدارس والجامعات في القاهرة، ودمشق، وبيروت، وبغداد والبصرة والموصل وحلب وطرطوس والإسكندرية و... و... وكم كانت تلك المرحلة زاهية بتفاصيلها البسيطة جدا.

عاد الكثيرون الى مدنهم ونحن الى جزيرتنا وبقينا أوفياء للبحر رغم أنه بدأ يبعد تدريجيا، كانت تلك الصديقة تردد بابتسامة عريضة في كل صباح أذهب في طريق مختلف إلى مقر عملي، ولكن كل طرقي ملاصقة له، كلها لا تفترق عن بحري! ستمر سنون سريعة قبل أن تمتد الأرض لتلتهم البحر من زواياه المختلفة، ونصبح تدريجيا جزيرة تبحث عن شاطئ... وفي حين عمد الكثيرون الى تقبل ذلك أو ربما حاولوا إقناع نفسهم بأن ذلك جزء من "المدنية" و"التحضر" أو حتى التوسع العمراني! المهم أن البحر بعد وبعد وبعد وتحولت الشواطئ إلى مساحات تباع بأغلى الأثمان وتسور لتوضع عليها يافطة كبيرة "ابتعد أملاك خاصة".

هنا أيضا تصورنا أو تصور بعضنا أنها ظاهرة كونية أي أن تكون الشواطئ ملكية خاصة لمن يستطيع لذلك سبيلا، أو أنها جزء من العولمة أو ربما لنجاري الأوطان المتقدمة والحضارة والمدنية، كثرت التفسيرات والتبريرات ربما حتى رحل الكثيرون منا للبحث عن بحر يشبه بحرنا أو حتى للاغتسال بماء البحر أي بحر بعيدا عن صيفنا الحارق، وهناك جاءت الصدمة، ثم توالت من بلدة صغيرة في أصغر جزيرة يونانية حتى مدينة إيطالية أو فرنسية أو إسبانية أو في أي بلد أوروبي، وكانت الصدمة أن الشواطئ ملكية عامة للمواطنين بل للزائرين وكل البشر وليست لفرد أو لمن يستطيع أن يدفع.. الشواطئ كما الصحة والتعليم حق عام للجميع ولا تستيطع أي حكومة في أي بلد كان أن تضع يدها وتقسمها ثم تبيعها تحت مفاهيم العرض والطلب.

كانت تلك الفكرة صادمة فلا أسوار تعزل الشواطئ عن أنظار المارة ولا شواطئ تتضاءل بفعل المزيد من البيع والمزيد مما يسمى "مدن جديدة" ولا ينام أحد سكان تلك القرية في حضن الموجة ليستفيق في ساعات الصباح الأولى على أسوار حديدية وجرافات تردم جاره البحر، وتحول شاطئه ومصدر رزقه إلى شيء من الماضي البعيد..

قبل سنوات كانت في إيطاليا هي وزوجها الثري وأحبا أن يحجزا أغلى فندق محاذ للبحر ونزلا في ذاك الصباح سعيدين فافترشا الأرض الأقرب للموجة وراحا يتأملان عندما داهمتهما أصوات بعض نساء من تلك البلدة الإيطالية العريقة اللاتي تحدثن بلغتهن طبعا بما يبدو أنها لهجة غاضبة. لم تفهم هي ولا زوجها كلمة ولكنهما فوجئا بالسيدات الإيطاليات يفترشن الرمل أمامهما جالسات متحفزات.. مر بعض الوقت قبل أن تفهم هي وزوجها أن سكان البلدة الإيطالية محتجات على هذا الفندق ذي النجوم الخمسة أو السبعة والذي في رأيهن قد استلب البحر الذي لا يملكه، هي أيام وعاد البحر لسكان تلك البلدة واضطر أصحاب ذاك الفندق الفخم الى دفع غرامات كبيرة.

كثير من الحر هو والشاطئ يحن لموجته ولساكنيه والناس في جزيرتنا تبحث عن بحرها الذي اختفى كحبات الرمل بين أصابع اليد.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

د. خولة مطر