شعرت بالعجز في الكتابة عما يحدث في لبنان، تأملت المشهد ملياً، هل أكتب عن لقاء «مريم وسعد» في تلفزيون الجديد؟ أم عن مكب النفايات المسمى زمرة السياسيين الذين يديرون معاركهم القذرة من فوق وكأن البلد بألف خير؟ أم عن الخراب الذي وصلنا إليه وما زال «ساكن القصر» يتكتك ويتحفظ على من يسمي الوزراء المسيحيين في الوقت الذي انهار فيه البلد إلى القاع؟ أم عن حليفه الذي عقد معه «صلح حارة حريك» ومستمر في تأمين الغطاء السياسي له حتى نهاية عهده أو نهاية لبنان لا ندري؟

صرنا «ممسحة» عند السفراء الذين يمثلون بلادهم، إهانات واحتقارات توجه إلى المنظومة السياسية الفاسدة دون أن يرف جفن أحدهم، بعد أن سقطت هيبة الدولة وبات الضابط اليهودي أفيخاي أدرعي الذي يحشر أنفه بكل شاردة وواردة يتلذذ بمآسينا وبالوضع الذي أوصلونا إليه؟

Ad

لم يعد في قاموسنا مفردات نستطيع أن نرميها في وجوه هؤلاء المختبئين وراء قطعان من المتعصبين والمتحازبين تشبه قطعان الغنم التي تسير وراءهم، وكل يوم نسمع معزوفة المهاترات السياسية بين هذا الفريق وذاك والبلد يحترق دون أن يلتفت إليه أحد؟

رحت إلى مكان آخر، رافقت الزميل نبيل إسماعيل نقيب المصورين الصحافيين سابقاً والذي أمضى عمره كمصور محترف، وأنا أستمع إلى شهادته عن انفجار المرفأ، وكيف هي حال بيروت اليوم بعد الحدث الجلل؟ وجدت ضالتي في رحلته عبر «الصورة» فهذا ابن مهنة عتيق، يروي بالكلمة ما لم نره في الصورة، لم أتمالك نفسي بالبكاء إلا في اللحظات التي أعاد لنا فيها الأمل، أن بيروت سترجع عروساً وستعود إلى أهلها مهما طالت النكبات وزادت الفواجع، شهادة صادقة نابعة من الأرض التي أحببناها وكانت تمثل لأبناء جيلي «عروس الشرق».

من وجع الناس، كان نبيل ذلك الوجه الذي نألفه ونحبه توقفت أعيننا معه عند لحظة الموت، لكنها سرعان ما استنهضت لتعانق الحياة والفرح وتطل علينا من نافذة صحيفة «النهار» التي أضاءت لنا الضوء وبددت العتمة.

في الحوار الذي أجرته السيدة نايلة تويني حفيدة الأستاذ الكبير غسان تويني ومن أمام إهراءات القمح المدمرة في مرفأ بيروت، ترك نبيل كاميرته معلقة على كتفيه وراح يتحدث عن «الانفجار».

في الرابع من (أغسطس) الماضي الساعة السادسة صباحاً كان في طريقه إلى «بيت الوسط» راح يسرع الخطى باتجاه الدخان الذي ملأ سماء بيروت.. في تلك اللحظة غاب الوعي، اختفى كإنسان وبقيت المهنة تطارد عقله أو ما تبقى منه، وفي اللاوعي شعر أن هناك شيئاً كبيراً، حتى الهواء تعرض للتدمير، صارت المهنة أقوى منه، صار الصراع بينه وبين الوقت، هذا الانفجار كان أقوى منا جميعاً، كل الانفجارات التي عرفتها بيروت ولبنان كان يمكن السيطرة عليها «كما يقول نبيل» لم نكن بوعينا نحن معشر المصورين «تجربته بالحرب علمته إلغاء الحالة الإنسانية»، عرفنا أنه لم تكن هناك صورة حقيقية شاملة للانفجار التقطتها كاميرا مصور محترف بل جاءت من الهواة.

أي صورة يراها نبيل اليوم لبيروت؟ يجيب بقوله: «لم أر إلا بيروت المدمرة ومصدوم بكمية الدمار»، وبالرغم من الحرب الأهلية التي دامت 15 سنة بقيت بيروت عروساً وجميلة.

الانفجار كان أكبر من عدساتهم، كانوا تائهين وفي حالة ضياع هو وزملاؤه المصورون، تبقى صورة بيروت العروس هي الحاضرة في ذاكرته، فلم يصدق ما رأته عيناه رغم الإجرام والقتلى، طوال 15 سنة كانوا يمعنون الأذى والتخريب بفستان العروس لكن هذا الانفجار نزعها من الأرض.

نبيل أعاد إلينا الأمل بتعبير عفوي وأصيل وهو يرى بيروت بلون عينيه، وعنوان بيته، وبروحه التي ارتبطت بها، بيروت التي جمعت كل الناس، ستعود إلى من أحبها أو لجأ إليها أو عاش فيها.

حمزة عليان