في حادثة ليست الأولى، كشف النقاب قبل أيام عن حبس امرأة مواطنة في «زنزانة» بمنزل ذويها مدة تزيد على 9 سنوات، لتتحول الى قضية «رأي عام»، وتكون نموذجا معلنا لمئات الحالات المستترة من النساء اللاتي يتم حبسهن وتعنيفهن من دون أن يعلم أحد بهن باستثناء المقربين الذين يتملكهم الرعب من التبليغ.

إنقاذ المواطنة تم عن طريق العاملة المنزلية التي استخدمتها حديثا، فما رأته هذه العاملة خلال الساعات القليلة كان أقسى من أن تصمت، فأقدمت على مساعدة الضحية بتمرير الهاتف لها من أسفل الباب الحديدي ذي الفتحة الصغيرة، وعندما بحثت المواطنة المحجوزة عن طريق محرك البحث عثرت على «مخلّصتها» المحامية منى الأربش، وتواصلت معها لإنقاذها، فقدّمت المحامية شكوى عاجلة للنائب العام، وتم اقتحام المنزل وإنقاذ الضحية من سجنها الذي أودعت فيه بحُكم أسري نتيجة ممارسة حريتها واختيار حق من حقوقها وهو «الطلاق»!

Ad

9 سنوات من السجن... «حكم» يتجاوز وصف كثير من الجرائم المشينة، لمجرّد أن تقرر «المحجوزة» ممارسة حق من حقوق الإنسانية، ففي مجتمعنا يعتبر «الطلاق» قرارا يستلزم موافقة جميع أفراد الأسرة عليه، باستثناء صاحبة الشأن، فكان الرفض هو الجواب، وبدأ العقاب، بحجزها، بعدما أعيدت إلى مسكن والديها قبل نحو عقد من الزمن، وبعد 6 أشهر استطاعت الهرب إلى مسكن إحدى صديقاتها، إلا أن الأهل استطاعوا إعادتها للمنزل وحجز حريتها منذ ذلك الوقت، ولمدة 9 سنوات.

إنها جريمة تخطّت جميع المبادئ والأخلاقيات والقيم الإنسانية، قضية «معاناة إنسانية» تعبّر عن واقع مخفي بذرائع «العيب والستر وكلام الناس». فكيف ينظر القانون وأصحاب الاختصاص الى هذه القضية؟

«الجريدة» سألت بعض أصحاب الشأن والمهتمين بقضايا القانون والإنسان والمجتمع، وكانت هذه المواقف.

محامية الضحية

بداية، اعتبرت المحامية منى الأربش أن من المهم أن يعي كل فرد دوره في التكاتف المجتمعي والأسري، وحدوده أمام حرية الفرد في الأسرة باتخاذ قراراته الحياتية دون تدخّل، وهذا ما كفله الدستور الكويتي.

وأكدت أهمية التبليغ عن جرائم العنف للجهات المختصة وللمحامين وجمعيات النفع العام المعنية، فنحن في دولة قانون ومؤسسات وجهاز قضائي ذي كفاءة يحقق العدالة والردع والأمن العام. وقالت إن التهم الموجهة للمتهمين تصل إلى 10 تهم بين خطف وتزوير وتعنيف وحبس حرية، وغيرها الكثير.

وطالبت الأربش، في تصريح

لـ «الجريدة»، بسرعة إصدار اللائحة التنفيذية لقانون العنف الأسري، مؤكدة أهمية إنشاء إدارة مختصة لتلقي بلاغات العنف الأسري تحت إشراف النيابة العامة بالكامل، كما يجب أن يتكون فريق العمل من الشرطة النسائية ومن كادر متخصص في تلقي بلاغات العنف والتعامل مع المبلغين، مع ضرورة وجود خط ساخن على مدار الساعة وموقع إلكتروني يتم تقديم البلاغات عبره، وذلك لوجود حالات لا تحتمل التأخير وبحاجة إلى تجاوب سريع، وبدء تحقيق سريع وتدخّل فوري لحمايتهم.

ودعت محامية «المواطنة المحجوزة» الى أن يتجرّد الموظفون في مراكز الشرطة وجهات التحقيق من أي موروث اجتماعي أو قبَلي أو أيّ توجهات وآراء فردية، وعليهم التعامل بحيادية مع كل الحالات خاصة الحالات النسائية.

دور إيواء

وأشارت الأربش إلى أهمية تفعيل دور وزارة الشؤون الاجتماعية على أكمل وجه، حيث أكدت أن عليهم عبئا كبيرا في افتتاح دور الإيواء ودور الاستماع بأسرع وقت، حتى يتم حماية الأفراد المعنفين، حيث من غير المنطقي أن يلجأ المعنّف لأفراد أو جمعيات للتعامل مع مثل هذه الحالات، في حين أن القانون ألزم وزارة الشؤون بإنشاء اللجنة الوطنية التي تتكون من عدة جهات حكومية بالتعاون مع جمعيات نفع عام لتوفير الحماية للمعنفين تحت رعاية الدولة.

وقالت إن أي من يحاول أن يستخدم نفوذه لردع الشهود وإكراههم على عدم أداء الشهادة، فإنّ هذا الفعل يشكّل جريمة يعاقب عليها القانون جزائيا وتأديبيا.

مساحة أمان لا جريمة

من ناحيتها، قالت القانونية لطيفة الشمري «لا بدّ أن يكون المنزل «مساحة أمان» للفرد، لكنه في واقع الحياة قد يكون «مساحة جريمة»، فالناس ليسوا سواء، وهنا يأتي دور المؤسسات في فرض التنظيم القانوني لكل خلل واقع أو مفترض. لكن ماذا يحدث إذا توافر الخلل في المؤسسات والمجتمع والأفراد؟ وهل الخلل في القوانين فعلًا؟ هناك نصوص قانونية تحتاج إلى تعديل في المعنى واللفظ، وهناك نصوص تحتاج الى تطبيق فعلي، وهناك نصوص تحتاج إلى إلغاء، وهذا من تطور وتبدل الأحوال والحياة.

وأضافت الشمري: دائمًا يلفت نظري نص المادة 143 الذي يعفي الزوج والأصول والفروع في عدم التبليغ ومنع مشروع جرائم القتل، السرقة، الحريق، وفي مقابل هذا نص قانوني يحمي من يقوم بالإبلاغ من أفراد أو جهات عن العنف الأسري. فالمشرّع حفاظًا على روابط العائلة، يعفي الساكت، لكن يطلب من الأفراد؛ سواء من العائلة أو غيرها والجهات الإبلاغ عن العنف مع الحماية لهم، هذا هو تمامًا صورة من صور الخلل المترسب، فإن كان الهدف حماية العائلة؛ أليس أولى حماية حق الحياة ابتداءً؟ وإن كان القانونيون يستعلمون كلمة مشروع حسب موقعهم.

الأمر كله هو سيطرة وتحكّم على الأضعف رجلا كان أو امرأة. الجرائم الواقعة في المنازل هي الأخطر بسبب القدرة على استمراريتها وإخفائها.

جذور المشكلة

من جانبها، قالت الكاتبة والناشطة في حقوق المرأة والإنسان، سارة المكيمي: في هذه القصة نرى امتهانا جائرا على واحد من أهم حقوق الإنسان العاقل الراشد، ألا وهي حرية التنقل والترحال التي كفلها الدستور الكويتي ووثيقة حقوق الإنسان. كيف يتمكن أب من حبس إنسانة بلغت السن القانونية في المنزل سنوات؟ ومن أعطاه هذا الحق؟ وكيف سجنت هذه المرأة خلف الجدران سنوات طويلة وهي مواطنة يكفل لها الدستور وقوانين الدولة أن تكون حُرة ولا يقيّدها أحد؟

وأشارت المكيمي إلى أن المشكلة تبدأ من مفهوم متجذّر بالموروث والعادات، وهو تبعية المرأة للرجل، من بيت والدها الى بيت زوجها، ومن ملكية والدها الى ملكية زوجها. كلنا نعلم أن المشاكل التي تحدث في البيوت تغضّ الأنظمة والمجتمعات النظر عنها بذريعة «المشاكل العائلية» أو «أسرار البيوت»!

في الحقيقة، أسرار البيوت يجب ألّا تبرر ارتكاب جرائم بأي شكل من الأشكال، لا ضد الطفل ولا المرأة ولا العاملة المنزلة ولا حتى الرجل! و«الفضيحة» يجب ألّا تكون رادعا للتبليغ عن كرامة إنسان تمتهن، أو حرية إنسان تُغتصب أو أي نوع من أنواع الضرر عليه.

وختمت بقولها: نحن بصدد مشوار طويل لتغيير المفاهيم الاجتماعية والثقافية، وزرع بذور الإنسانية المحايدة، وإعلاء راية حق الإنسان ليكون حرا في حياته.

الناجيات من العنف

بدورها، لفتت المعالجة والاستشارية النفسية والتربوية، البروفيسورة آمار بهبهاني، إلى الأزمة النفسية التي تعانيها النساء بشكل خاص من جراء العنف الأسري، وقالت: أصبح العنف الأسري الذي يمارس ضد أفراد الأسرة من القضايا الاجتماعية المتنامية، التي بدأت تؤرق المجتمعات المختلفة على الصعيدين العالمي والمحلي في الفترة الأخيرة، ولاسيما في ظل أزمة كورونا، حتى أضحت هذه الظاهرة بمنزلة جائحة الظل الموازية لجائحة كورونا، حسب ما وصفته الأمم المتحدة، لكننا اليوم نتحدث عن ظاهرة مكبوتة مجتمعياً، ولم يتحدث عنها أحد.

وأضافت: «في مجال عملي بالتعليم والعلاج النفسي السلوكي، رأيت وعالجت حالات عنف وتنمّر ذكوري كثيرة جداً، لكن رحلتي مع الناجيات من العنف بدأت مع (سوروبتمست الكويت)، حين كنت رئيسة الجمعية من 2018 – 2020، عملنا كمجتمع مدني يختص بتمكين المرأة في نواحٍ متعددة، وخصوصاً المناهضة لحقوق المرأة ضد العنف».

واستطردت: «في دراستي الأخيرة مع الجمعية صنفت العنف الى 14 نوعا، وطورنا البرنامج التأهيلي الأول من نوعه في الكويت برعاية مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».

وقالت بهبهاني إن حالة المرأة المحجوزة واحدة من عشرات الحالات المتشابهة التي شهدتُها خلال عملي مع الناجيات، فحبس المرأة في قفص الظلم، مهما كان النوع، لا يليق بمجتمع مثل الكويت.

أقنعة العنف

وذكرت أن القادرين على تطبيق العنف على الإنسانية محفورون في المجتمع، ولهم أ‏قنعة كثيرة، ولكن آن الأوان أن يكون هناك رادع بوجود قانون العنف الأسري الجديد.

وأكدت أن العنف الذي تعرّضت له هذه المرأة هو عنف اجتماعي بالأصل، فالعنف الاجتماعي يُعتبر فعلا مزدوجا يتمثّل في عنف يمارسه المجتمع على أفراده للقبول بمنظومته الفكرية، وعنفاً سيكولوجيا - اجتماعياً يؤثر على فكر الضحية، النتائج النفسية متعددة على حسب نوع العنف وقدرة الناجية على التأقلم الشفائي.

وختمت بهبهاني قائلة: باسم كل امرأة كويتية أنا أرفض العنف بجميع أنواعه، وسأكون دائماً سنداً لأي أنثى تعرّضت للعنف.

حجز سادي قائم على أساس الجنس

قالت الناشطة النسوية عضوة هيئة التدريس في جامعة الكويت، د. حنين الغبرا: تتوالى علينا أخبار ظلم النساء بصورة شبه يومية، واستيقظنا على خبر احتجاز عائلة لابنتهم مدة ٩ سنوات في غرفة أسوأ من زنزانة السجن، وهذا مثال على ما تعانيه المرأة من المحيط الاجتماعي الذي يفرض عليها طاعة الوالدين مهما كانوا سيئين.

وأضافت الغبرا: نعم يمكن للوالدين أن يكونا مسيئين جسديًا أو عاطفيًا، ولهذا علاقة مباشرة بهياكل السلطة في هذا النظام الأبوي، إن حالة هذه المرأة الناجية من الحجز الأسري تعبّر عن مستوى آخر من العنف السادي القائم على أساس الجنس، حبست فقط لأنها حصلت على الطلاق.

وأشارت إلى أن القضية ليست جديدة، فنحن نبحث في قضية عميقة الجذور، حيث تتم معاقبة النساء لكونهن أقلّ قيمة من الرجل في الهياكل الاجتماعية للزواج والتقاليد والصور النمطية.

وتابعت: «لا يزال بعض الرجال يرون أن المرأة تريد حقوقها المتساوية، لأنها تشعر بالملل، وليس لأنها تتعرّض للقمع والقتل والعنف بشكل منهجي من قبل النظام الأبوي الذي يضر الرجال والنساء معا».

وتتساءل الغبرا: إلى متى سنظل نعاني على أساس أننا نساء؟ ألم يحن الوقت لبناء تحالفات جادة؟ حان الوقت لكي يتخذ كل من النساء والرجال موقفًا في بحث كيف يمكننا أن نلتقي جميعًا، على الرغم من اختلافاتنا وامتيازاتنا ومظلومياتنا، ويبدأ هذا بالتحالف والتضامن والاعتراف بأن المرأة هي أيضًا إنسانة تصارع في جميع هذه المؤسسات الاجتماعية من أجل البقاء على الحياة.

وختمت: «يجب أن تكون هناك مساواة كاملة وعدالة اجتماعية، لأنّ غيابهما سيؤدي إلى الخلاف والنزاع في بنى المجتمع، وخصوصا في مؤسسة الزواج وفي بقية القطاعات والمؤسسات المجتمعية».

حصة المطيري