رغم ان الأزمة السياسية التي يشهدها مجلس الأمة منذ انتخابه في ديسمبر 2020 عطلت معظم اوجه التشريع والرقابة البرلمانية، فإن آثارها السلبية لم تقتصر على الجانب السياسي فقط، بل شملت كذلك الجانب الفني، خصوصا في شقيه المالي والاقتصادي.

ولأول مرة في تاريخ الحياة البرلمانية في الكويت يتم التصويت على الميزانية العامة للدولة التي تجاوزت قيمتها 23 مليار دينار، ليس فقط دون نقاش او حتى سؤال او استفسار واحد عن طبيعة مصروفاتها، إنما أيضا من خلال الاعتماد على التقارير الواردة من الحكومة، لا من لجنة الميزانيات البرلمانية المعنية بدراسة التقارير الحكومية وإبداء الملاحظات عليها، في وقت تعتبر مصروفات الميزانية الحالية لعام 2021 -2022 الأضخم في تاريخ الكويت بتوقعات عجز يبلغ 12.1 مليار دينار، اي ما يوازي 52.6 في المئة من اجمالي المصروفات.

Ad

السنوات السابقة

وربما يتساءل البعض: أليست هذه طبيعة اقرار الميزانيات السنوية في مجلس الأمة التي يغلب عليها ضعف الجانب الفني والتمرير السريع لموازنات الجهات الحكومية دون تدقيق او نقاش موسع وموضوعي؟

فعلاً , ومع التأكيد على ان الحكومة ونوابها يستعجلون سنويا عملية اقرار الميزانية دون نقاش عميق فإن مناقشة الميزانيات العامة خلال السنوات السابقة لم تكن اصلا على مستوى الطموح المفترض وهو وضع يستوجب رفضه وتطويره لا تقليصه او الاستناد عليه لفرض وضع قاصر آخر , خصوصا ان الميزانية الحالية تأتي ضمن ميزانيات سنوات العجز المالي، وبالتالي يجب ان تناقش بفلسفة مختلفة عن ميزانيات الفوائض وسنوات الإيرادات النفطية المريحة والتي لا تتطلب كثيرا من الجهد الحكومي في الحصول على المليارات لتمويل الميزانية، فضلاً عن أن التساهل في مسألة الاعتماد على تقارير الميزانية كما وردت من الحكومة سيمثل سابقة ربما تتحول الى عرف يجعل الحكومة هي من يعد الميزانية ويوافق عليها دون اي اعتبار للبرلمان ولجانه.

والأهم من المقارنة في عملية "سلق الميزانية" مع السنوات السابقة أن تمرير الميزانية الحالية بالطريقة التي وافق عليها مجلس الأمة "حكومة وأقلية نيابية" ضيع فرصة اعادة هيكلة العديد من اختلالات الميزانية في ظل ثاني اكبر عجز متوقع في تاريخ الكويت، ومن أدنى أوجه اعادة الهيكلة التي ضاعت في جلسة الميزانيات مراجعة اوجه الانفاق على مختلف انواع المصروفات غير الضرورية، ومن أبسطها المهمات الخارجية والمؤتمرات الى المشاريع التي يمكن تنفيذها عبر نظم الشراكة بين القطاعين العام والخاص لا بنظام المناقصات العامة لتكون الميزانية الحالية مماثلة على الاقل في مصروفاتها للميزانية السابقة المتضخمة اصلا، وليس رفعها بنسبة 7 في المئة، مع ان الواجب تقليص المصروفات ووضع سقف يمنع رفع الانفاق خلال السنة المالية بعد ان فشلت حكومات سابقة في هدفها لوضع سقف انفاق على مدى 3 سنوات.

إرادة وإدارة

والميزانية العامة في الكويت التي تضاعفت على مدى 20 عاما 7.4 مرات وصولا الى 23 مليار دينار تحتاج الى عمل طويل وشاق وارادة قوية وادارة كفؤة لإحداث تغيير جذري في عقلية التعامل مع الميزانية العامة للدولة بشكل يغلب فيه التحوط المفترض لا الانفلات المعهود، من خلال اعتماد خطة من مرحلتين، بالتزامن مع إقرار الميزانية: الأولى عاجلة على المدى القصير يتوقف خلالها استقطاع حصة صندوق الأجيال القادمة المقدرة بـ 10 في المئة من إجمالي الإيرادات النفطية لدعم ايرادات السنة المالية 2021-2022 بمليار دينار، وهو ما يتم تنفيذه فعلاً وضريبته بالطبع وقف تمويل صندوق احتياطي الأجيال بالموارد السائلة للعام الثاني على التوالي، إلى جانب توريد الأرباح المحتجزة من مؤسسة البترول الكويتية والجهات الأخرى، أو الاقتراض من هذه الجهات على أساس استثماري، والعمل على خفض ميزانية الجهات الحكومية.

أما المرحلة الثانية فتتمثل في الجانب الاستراتيجي من الخطة، على المديين المتوسط والطويل، عبر استخدام أموال الميزانية كأداة للإصلاح الاقتصادي، لاسيما تنمية الايرادات غير النفطية وخلق فرص العمل للمواطنين وتعديل التركيبة السكانية وخلق فرص الاستثمار التي تحفز أموال الودائع في البنوك، فضلاً عن جذب الاستثمارات الأجنبية للبلاد، إلى جانب العمل على إصلاح حال أوضاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، كي تستوعب أكبر عدد ممكن من الشباب الكويتيين القادمين لسوق العمل في السنوات المقبلة، بما يخفف العبء على مصروفات الرواتب التي تلتهم 53 في المئة من حجم ميزانية الدولة.

تناقض «المالية»

اللافت انه بعد جلسة اقرار الميزانية العامة، أعرب وزير المالية خليفة حمادة عن شكره وتقديره لأعضاء مجلس الأمة على تعاونهم في إقرار الميزانية، والتي تضمنت، حسب تصريحه، ارتفاعا في بنود الإنفاق الجاري مقارنة بالسنة الماضية بـ687 مليون دينار، وهو نفس الوزير الذي تحدث سابقا عن "ضرورة معالجة شح موارد الدولة وأهمية السحب من احتياطي الأجيال القادمة والاقتراض من الدين العام لمعالجة مشكلات السيولة في المالية العامة"، بل إن الوزير أدرج زيادة مصروفات العلاج بالخارج بمبلغ 105 ملايين دينار، أي بنسبة تتجاوز 25 في المئة عن المصروفات السابقة، كأحد الأمور التي تستحق شكر وتقدير النواب الموافقين على ميزانية الدولة الجديدة، مع أن مجلس الوزراء في أكثر من مناسبة أعلن عن "أهمية تقليص مصروفات العلاج بالخارج وتقنينه للمستحقين"، حسب ما ورد في البيانات الرسمية للحكومة!

عملية إقرار الميزانية بهذا الشكل الذي تم في جلسة الثلاثاء الماضي إخفاق فني لا تبرره الأزمة السياسية التي يبدو أنها ستستمر معنا - بشكلها الحالي أو بتحوراتها - أشهرا، وربما سنوات قادمة، إذ لا يمكن أن تكون مالية الدولة التي تتضاءل مهنيتها وكفاءتها عاما تلو الآخر ضحية لأزمة سياسية أو طموحات شخصية.

محمد البغلي