لم تكن فكرة غزو مصر وليدة عقل نابليون بونابرت، بل ترجع إلى عهد "لويس الرابع عشر"، ويقال إن الفكرة قدمها إلى ملك فرنسا الفيلسوف الألماني "ليبنتز" Leibnitz، في رسالة قدمها وضمّنها كل ما كان يعرفه الفيلسوف عن مصر، مبينا الفائدة العظمى التي يجنيها الملك من غزوها.

وكان دافع الفيلسوف الألماني من هذا المسعى أن يبعد حب الغزو عن نفس الملك "لويس" وعن وطن الفيلسوف غربي ألمانيا، ويبدله بها بلدا آخر غنيا صالح الموقع، غير أن هذه الرسالة، يقول "د. محمد أبو طائلة"، لم تنتج أي أثر سياسي، وبقيت الفكرة ميراثا انتقل إلى القرن التاسع عشر، ليحققها نابليون.

Ad

ويضيف "د. أبو طائلة" في رسالة جامعية له بعنوان "مركز مصر الدولي"، القاهرة 1924، إن السبب المباشر الذي استند إليه نابليون كان "سياسة الضغط والعسف"، التي اتبعها كبار المماليك من حكام مصر، "إبراهيم بك" و"مراد بك"، نحو الجالية الفرنسية في مصر، ويرى "د. أبو طائلة" أن مثل هذه الحجج معروفة، إذ جاء في خطاب لنابليون قبل الحملة بأشهر قوله "إن الدولة الأوروبية التي تحكم مصر لا بد ستحكم الهند". (ص8).

لنابليون بونابرت وحملته العسكرية على مصر أهمية خاصة في التاريخ العربي الحديث، والقرن التاسع عشر وما تطور بين مصر وفرنسا من علاقات.

ونقف هنا قليلا مع ما دار حول الحملة الفرنسية (1798-1801) من أخذ ورد بخصوص تأثيراتها في النهضة واليقظة الفكرية والسياسية التي شهدها ذلك القرن، فقد أبرز بعض الباحثين والمؤرخين هذا التأثير، في حين قلل آخرون من أهميتها بل أشاروا الى الاعتداءات والجرائم التي رافقت تلك الحملة في المدن والأرياف، وسنعرض للقارئ نماذج من مختلف الآراء تاركين له الحكم عليها.

ينظر المؤرخ "د.علي المحافظة" الى الحملة الفرنسية ضمن "عوامل النهضة الفكرية عند العرب في القرن التاسع عشر"، فيقول: "فتحت الحملة الفرنسية على مصر أبواب العالم العربي على الحضارة الغربية الحديثة بما اشتملت عليه من مبادئ سياسية وأنظمة إدارية وعلوم وآداب وفنون وطباعة وصحافة وغيرها. ورافق نابليون في حملته هذه فريق من العلماء الفرنسيين في الرياضيات والهندسة والطب والجغرافيا، وجلب معه مطبعتين إحداهما فرنسية والاخرى عربية. ولما استقر به المقام في مصر أنشأ الدواوين وغرضه منها "تعويد أعيان مصر على نظم المجالس الشورية وأساليب الحكم". كما أسس مجمعا علميا على غرار المجمع الفرنسي، من أجل البحث والدراسة في موضوعات الطبيعة والصناعة والتاريخ".

وعن عدم استفادة المصريين منها مباشرة يقول: "غير أن السنوات القليلة التي قضتها الحملة في مصر، وانصرافها الى توطيد الحكم الفرنسي في البلاد، لم تتح للمصريين إمكانية التفاعل معها، واقتصر رد الفعل في مصر على الإعجاب بالنماذج الحضارية التي جاءت بها الحملة، ومحاولة الاستفادة منها في عهد محمد علي (1805-1848)".

(الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، د.علي المحافظة، بيروت، 1983، ص23-24).

ودرس الباحث التونسي "د.علي المحجوبي" في كتابه "النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر"، تونس 1999، أسباب فشل النهضة بمصر وتونس ونجاحها في اليابان، وقال عن تأثير الحملة الفرنسية على مصر ودور "نابليون" ما يلي: "لقد لعبت مصر دورا طلائعيا في النهضة العربية لأنها كانت أول بلد عربي يتعرض للغزو الأوروبي وذلك منذ حملة نابليون في أواخر القرن الثامن عشر، فخرجت حينئذ من العزلة التي عاشت فيها لمدة ثلاثة قرون منذ أواخر القرن الخامس عشر، أي منذ الاكتشافات الكبرى وتحويل الطرق التجارية العالمية من البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى إلى المحيطات والعالم الجديد. واحتكت مصر عنوة بأوروبا وأصبحت بالرغم عنها ميدانا للمؤثرات الأوروبية الحديثة، خصوصا أن نابليون كان مرفوقا بثلة من العلماء الذين قدموا لدراسة الوضع بمصر ومنطقة الشرق الأوسط. فلا غرو أن يكون إذاً لحملة نابليون وتجديد الاحتكاك بأوروبا الأثر الكبير على تطور مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث عرفت تغييرا سريعا في كل من الميادين العسكرية والاقتصادية والادارية والتربوية والثقافية". (ص18).

وهاجمت "د. ليلى عنان"، أستاذة الحضارة الفرنسية بجامعة القاهرة حملة نابليون على مصر بشدة في عددين من سلسلة "كتاب الهلال"، وقالت إنها لم تكن مدمرة لمصر فحسب، بل كانت كما ترى، "السبب الرئيس في تكوين التحالف الأوروبي الثاني ضد جمهورية فرنسا، الذي بدأ بسلسلة التحالفات الحربية ضد نابليون، التي لم تنته إلا بسقوط دولة نابليون سنة 1815، وكانت أولى هزائم "بونابرت القائد الذي لا يهزم".

(الحملة الفرنسية: تنوير أم تزوير؟ د. ليلى عنان، القاهرة 1998، ص5، وكذلك "الحملة الفرنسية بين الأسطورة والحقيقة"، أغسطس 1992).

وتنقل د.عنان عن مرجع فرنسي بعنوان "بونابرت في مصر"، لجان تورلار Jean Tulard، فتقول: "ويشرح "تولار" هذه المقدمة بقوله "جنونية، لأن الغزوة تبدأ في شهر يوليو، مما يدل على الجهل التام بمناخ المنطقة، ولأنها هجوم على بلد لم تعلن الحرب عليه وجنونية، من جهة أخرى، لأن السبب المعلن كان إنشاء مستعمرة في اللحظة التي يعلن فيها حق الشعوب في تقرير مصيرها، والأغرب أن الجيش الفرنسي وجد نفسه سجين فتحه، لا يستطيع الرجوع الى فرنسا، في حين يتركه القائد لمصيره، ويعود مسرعا لإنقاذ جمهورية يهددها تحالف كان منتظرا من أمد بعيد".

ويضيف الباحث الفرنسي: "الغزوة لم تكن بالسهولة التي كانوا يتوقعونها، فالهجوم أثناء شهر يوليو كان بمعدات لا تتلاءم مع الحرارة الشديدة للجو، وكل أقوال الشهود العيان تؤكد انهيار الروح المعنوية للجند، وقد أصبحوا ضحايا لأنواع مختلفة من الحمى، علاوة على أن دوافعها لم تكن مقنعة (...) فالجند لا يدافعون (كما حدث في حروب الثورة) عن أرض الوطن (...) فكانت حالات الانتحار العديدة". (ص314).

وقد تواصل اهتمام الباحثين في دول كثيرة بالحملة الفرنسية على مصر ولا يزال، فقبل سنوات قليلة، عام 2013، قدمت صحيفة "الحياة" عرضا نقديا للترجمة العربية لكتاب "مصر تحت حكم بونابرت: غزو الشرق الأوسط"، من تأليف الأميركي "د.خوان كول"، في 577 صفحة، وقالت الكاتبة في الحياة "سحر الببلاوي" إنه لا يكاد يمر عام أو بضعة أعوام "إلا وينشر كتاب جديد يتناول فترة الاحتلال الفرنسي لمصر".

وأضافت أن "أهم ما يميز هذا الكتاب هو اعتماد المؤلف على مصدر له طابع خاص لدى المؤرخين، وهو مذكرات وأوراق ومراسلات ضباط الحملة الفرنسية وجنودها"، والمؤلف أستاذ التاريخ في "جامعة ميشيغان" بالولايات المتحدة، كما أنه مترجم العديد من أعمال "جبران خليل جبران" الى اللغة الإنكليزية. وتقول "الببلاوي" إن سياسة "بونابرت" الإسلامية حظيت باهتمام خاص من جانب المؤلف، فخصص لها الجزء السابع ليوضح بإسهاب كيف أنه استخدم الدين لأغراض سياسية، "حيث حاول مثلاً إقناع أئمة المساجد بالدعاء له في صلاة الجمعة، كما كانوا يدعون للسلطان العثماني"، وتضيف مهاجمة الحملة: "وهناك قضية أيضا يثيرها الكتاب، وهي أن بونابرت أحرق مستندات دولته ذات الصلة بـ"جمهورية مصر الفرنسية"، بعد أن أدرك مدى الفوضى التي أحدثها في وادي النيل والفشل الذريع الذي منيت به حملته، والإعلام والدعاية الكاذبة التي أحاطت بحملته، وقتل الآلاف من دون رحمة وإحراق القرى وتدميرها. ويتعجب المؤلف من أنه على رغم كل هذا فإن هناك البعض من أنصار القومية المصرية في مصر يصفون هذه الحملة بأنها كانت دفعة قوية نحو الحداثة".

(الحياة، 3/ 8/ 2013)

وغني عن القول أن الحملة الفرنسية تبقى نقطة تحول وحدثا تاريخياً بارزاً مهما تضاربت في تقييمها ودورها الآراء، وبخاصة أن فرنسا كانت لفترة طويلة أهم نوافذ دول المشرق وبخاصة الدولة العثمانية، وتركيا وإيران ومصر لدى بروز الطابع الوطني والقومي للدول، على أوروبا والغرب.

وعن بدايات العلاقة الفرنسية- العثمانية يقول د. خالد زيادة إن الفرنسي "دو بونفال" (1675-1747) Bonneval قدم مشروعا لتأسيس مدرسة للهندسة، كما قدم مشروعاً آخر لإقامة جسم جديد للمدفعية، وقد عمل بالمشروعين، وأصبح "الكونت دو بونفال" الذي سيكتسب اسم "أحمد باشا" بعد دخوله في الإسلام، أول مسؤول عن أول جسم للمدفعية العثمانية الحديثة، كما أنه سيسهم في إدخال جسم خاص بالطب في الجيش العثماني".

وعن أهمية هذا الرائد الفرنسي يقول د. زيادة: "لعب دور بونفال، الذي خدم كضابط في الجيش الفرنسي والجيش النمساوي قبل أن يستقر في إسطنبول، دوراً سياسياً بالقرب من الطبقة الحاكمة العثمانية، وقد أوصى الى الباب العالي بضرورة قيام تحالف تركي- فرنسي لمواجهة الخطر الروسي الذي يتوسع على حساب الأراضي العثمانية، وكان يرى بأن العثمانيين عاجزون عن مواجهة التحديث الروسي بدون الاعتماد على مساعدة أوروبا، وهذه المساعدة لا بد أن تكون فرنسية وحسب رأيه فإن التنمية التركية ينبغي ألا تقتصر على المجال العسكري بل تتعداه الى المجال الاقتصادي. عدا عن ذلك فقد لعب أدواراً أخرى ومنها التأثير المباشر على أفراد الطبقة الحاكمة من خلال تثقيفه لهم حول المسائل العسكرية والسياسية، وكان يدرس رجال الدولة ايجابيات التكتيك العسكري الحديث في ميدان المعارك، ويبرهن لهم ضرورة استيعاب التقاليد الدبلوماسية الأوروبية. وفي هذا المجال أعد تقريراً بعنوان: "بعض أحوال تاريخ دول أوروبا" يعود تاريخه الى عام 1733".

(اكتشاف التقدم الأوروبي: دراسة في المؤشرات الأوروبية على العثمانيين في القرن الثامن عشر، د. خالد زيادة، بيروت، 1981، ص46).

ويضيف "د. زيادة" أن الفرنسيين ساهموا مساهمة فعالة وأساسية في إنجاح مشاريع الإصلاح العثمانية، "فكانوا يعاونون في التدريس والتدريب وتسيير المؤسسات العسكرية من خلال ضباطهم وتقنيتهم وخبرائهم، يشاركهم في ذلك عدد ضئيل من أوروبيين آخرين". وقد اتسعت العلاقات في عهد السلطان عبدالحميد الأول (1773-1789) وقد نوقشت بين السفير الفرنسي والوزير "خليل حميد باشا"، مشروع، إرسال طلاب أتراك الى باريس ليتلقوا علوماً حديثة، فتقرر إرسال ثلاثين طالباً كدفعة أولى كما اعتمدت الدولة العثمانية لاحقاً في تعاملها مع الدول الأوروبية السفارات الدائمة في العواصم الاوروبية.

غير أن الحملة الفرنسية على مصر كانت لها آثار سلبية على هذه العلاقات والروابط، "إذ إن السلطان سليم الثالث سيعلن الحرب على الجمهورية الفرنسية، وسيوضع السفير الفرنسي في إسطنبول قيد الاعتقال"، ويضيف د. زيادة: "بالرغم من أن بونابرت كان يشيع بأنه قد جاء الى مصر باسم السلطان العثماني، وأنه ليس عدواً للعثمانيين بل للمماليك، فإن ذلك لم يخفف من غضب السلطان الذي استشعر مسؤوليته تجاه بلد إسلامي هو ولاية من ولايات الدولة العثمانية وتحولت فرنسا الى بلد عدو، وشجع ذلك السفير الروسي في إسطنبول، كما شجعته القوى المحافظة التي وجدت ذريعة للطعن بالاصلاحات، ومع ذلك فإن العلاقات العثمانية- الفرنسية ستعود الى طبيعتها بعقد اتفاق صلح عام 1802، وعادت البعثات الفرنسية بخبرائها وضباطها الى إسطنبول". (د. زيادة، ص55)

وهذا ما يدخل الحديث في تاريخ الحركة الإصلاحية العثمانية التي لا يتسع لها هذا المقال.

● خليل علي حيدر