قال لي بصوت ضعيف يبدو أننا كعائلة سيمحونا كورونا، وأكمل بعد تنهيدة عميقة وصوت مغمس بحزن لم أعهده منه "اكتبي، اكتبي خبري العالم ما الذي يفعله كورونا وأنت أكثر العارفين"، كان ردي بأنني كتبت كثيراً عن الجسد عندما ينخره الفيروس القادم مع كل نسمة.. قلت له "كتبت عندما غزاني الفيروس"، فرد بشيء من الإصرار "اكتبي أيضا وأيضا".. ولكنني لم أستطع أن ألبي نداء ذاك الصديق وهو الذي اقتحم كورونا منزله وكل عائلته الصغيرة والكبيرة وأدخل كثيرين منهم للمشافي في عواصم مختلفة وآخرون رقدوا في مقابرهم!!

مطلوب أن تكتب وأنت تعلم أن الموت يطارد الكثيرين من الأحبة والأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء وأحبة الأحبة، مطلوب أن تكتب وأنت تعلم أن أيامنا قد غمست بالسواد منذ أكثر من عام وأن البشر كل البشر قد تعبوا من حكايات الموت المتنقل والمرض والحبسة في البيوت بإرادة أو بغير إرادة، تدرك أن دور من قرر أن يمتهن نقش الحرف هو ألا يبعد كثيرا عمن يقرأ ذاك الحرف أيضا، ولكنك تخشى أيضا أن تنجر لسلسلة الكآبة والدنيا تسعى للخروج من ذاك النفق المعتم، وتتذكر كلام أساتذتك في الصحافة أولئك الذين شكلوا مدارس في المهنة لم يبق منها إلا بعض الشيء في حين تحولت المهنة إلى مساحة للردح والتضليل والتطبيل، وأصبح الصحافيون والإعلاميون يتنافسون على نشر النعرات القاتلة والولاءات الرخيصة.. علمنا بعض أساتذتنا أن نكون نبض الناس أو صوتهم وأحيانا ضميرهم وعلمونا أن نبقى شعلة النور في عتمة اللحظة وانطفاء الكلمة.

Ad

صوت أستاذك يطاردك "لا تكوني ورقة نعوة" خصوصاً أن كل المساحات المفتوحة تحولت إلى نشرة لأخبار الموت حتى خفنا أن تسبق تلك الأخبار فنجان قهوتنا أحد المتع البسيطة المتبقية مع تغريدات البلابل في شجرة بيت أبي، أما ذاك الذي كانت نصائحه أن الكآبة أكثر عدوى من الفيروس فابتعدي عن حامليها وناشريها واتركي لأحرفك مساحات لنور وفرح وضحكة لا يزال بعضها عالقاً في الذاكرة.

في زحمة بطء اللحظة والأيام المكررة ونصائح البقاء في البيت والحظر والمنع وانقطاع خيار السفر إلى سواحل تنتظر على مهل عشاقاً طال غيابهم ومريدين كثر اشتياقهم، في تلك الزحمة تنبش ذاكرتك، ولا حاجة للتوغل طويلاً، فقبل أقل من عامين كانت المشاهد في مثل هذه الفترة من السنة والصيف يفتح أبواب سماواته بشموسها وأقمارها ونجومها، حينها كانت المشاهد الأكثر شيوعا هي لمطارات مزدحمة بالراحلين والقادمين ومحلات حقائب السفر الملونة، ومصطافون من أعلى الجبال إلى الوديان والشواطئ وعند ضفاف الأنهار يضحكون ويرقصون ويغنون محتفين بوقت الاغتسال من تعب شتاء وخريف و"حبسة المكاتب" المكتظة وهي الأخرى تحولت إلى فضاءات فارغة تنتظر العائدين الذين طال غيابهم في بيوتهم.. قبل أكثر من عامين كانت البيوت تبحث عن ساكنيها في شهور الصيف الحارقة، أما الآن فقد تحولت إلى مساحات للعمل والأكل والتعايش والبحث عما يجعل الزمن يمر بأقل الخسائر النفسية والجسدية، وحتى في العلاقات التي إما انهارت عند أول امتحان لساكني تلك البيوت أو تحولت إلى سجون عند البعض أو حتى إلى فراغات ينخرها الاكتئاب والخوف والترقب لقادم مجهول بلا ملامح ولا تفاصيل.

بقي كلام صديقي يطاردني وأصوات لأصدقاء وأحبة كلهم نالهم نصيبهم من غزوة الفيروس الفتاكة.. تتزاحم الكلمات وأقترب من النقر على الأحرف ثم أعود مترددة لأن صوت الأساتذة هي الأخرى لا تسقط بتقادم الزمن، بل ربما تقوى وتزداد حضورا كما هم، وخصوصاً ذاك الذي رحل دون أن يمنحني آخر حضن وضحكة ونظرة مليئة بالسخرية هي ربما سخرية من بعض ما أفكر أو ربما هي من الحياة.. لا مفر سوى أن نبقي بعضاً من الضوء هنا وهناك حتى يرحل هو ومعه كل تلك العتمة القاتلة.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية

● د. خولة مطر