يعلن نابليون في وصيته "إيمانه بكنيسة روما وعقيدتها التي ولد عليها وجددها وكان دائما يحميها، لكنه لم يكن في صميم قلبه يؤمن بها"، ثم يفكر بعد ذلك، يقول المؤرخ، في المجد الذي يصيبه من قبر كالذي يدفن فيه الأبطال فيكتب: "أود أن تجد رفاتي مرقدها على ضفاف السين وسط الشعب الفرنسي الذي أحببته هذا الحب"، وبعد أن يشكر أمه وإخوته يبدأ بالتوصية بتوزيع ثروته، ويقول المؤرخ إن نابليون: "قدرها جميعاً بأكثر من 200 مليون فرنك، وأكد أن أي قانون لا يحرمه منها، وأوصى بنصفها للضباط والجنود الذين اشتركوا معه في حروبه المجيدة من 1792 الى 1815 ومازالوا على قيد الحياة، بنسبة مرتب الخدمة، وأوصى بالنصف الآخر للمدن وقرى الأقاليم التي أضر بها الغزو، يريد بهذا أن يلزم الحكومة الجديدة الخطأ من الناحية الأدبية، إذا كانت لا تزال مصادرة للمذهب ولكل ذي قيمة استولت عليه عند تنازله عن العرش".

وقوام هذه الثروة الأساسي "ما ادخره من مخصصاته في أربع عشرة سنة، وكل ما جهز به قصوره من جيبه الخاص من حلي وأثاث وفضيات، ثم أملاكه الإيطالية".

Ad

كما أوصى ببعض ثروته لمجموعة أخرى، وتلقى كل من خدمهُ في "سانت هيلانه" وكذلك الأطباء وجنرالات سابقون ومؤلفون وحرس بعض المال، وكذلك أطفال جنرالات وخدم اصطبلات، وكان من بين الوارثين سايس خيل من مصر وبواب، وقد أوصى نابليون لابنه كل أسلحته وسروجه ومهاميزه (جمع مهماز) وكتبه وملابسه الداخلية وسرير الميدان، ويقول نابليون "ليس بعيداً أن يناصر الإنكليز عودة ابني إلى فرنسا ليمحوا ذكرى اضطهادهم لي، لكنه لكي يعيش المرء مع إنكلترا في سلام لا بدله من مؤازرة مصالحهم التجارية مهما كلفه الأمر، وهذه الضرورة تنطوي على شيئين: إما مناهضة إنكلترا وإما اقتسام التجارة العالمية معها، والثانية هي الوحيدة الممكنة اليوم"، وأضاف نابليون "اللهم لا تجعل ابني يصعد العرش بنفوذ أجنبي أبداً، ولا ينبغي أن يكون هدفه هو الحكم وحده، بل أن يكون الفوز بحمد الأجيال القادمة، فالأمة الفرنسية أسلس الأمم جمعاء قياداً في الحكم، إذا لم يبدأ المرء حكمها بداية خاطئة". وعن أوروبا ومستقبلها قال "أوروبا تسير إلى تحول لا مفر منه، إن مركز ابني لن يخلو من صعوبات هائلة، فإن عليه أن يفعل بموافقة الجميع ما اضطرتني الظروف الى فعله بقوة السلاح".

كان ضمن توصيات نابليون أن تُشرّح جثته بعد موته ولا سيما المعدة، "وأظن أن مرضي هو المرض الذي مات به والدي..."، وأوصى ذات مرة: "إذا فقدت وعيي فلا تستدعوا بحال من الأحوال طبيباً إنكليزيا"، ويوثق كتاب إدوارد لكومت Le Comte (قاموس الكلمات الأخيرة)Dictionary of last words 1955، آخر كلمات نابليون فيقول إنها كانت (New york (France.. Army! Head of the army Josephine.

ويقول المؤرخ "لودفيغ" عن نهاية نابليون بونابرت: "كان جثمان نابليون الدامي ممدداً فوق خِوان- أي طاولة الطعام- غرفة المكتب، في ضوء الظهيرة الساطع، مشروطاً شرطين متقاطعين. وكان حول الخِوان خمسة أطباء من الإنكليز، وثلاثة ضباط من الإنكليز، والفرنسيون الثلاثة، وقد شرح الطبيب الكورسيكي الجثة، ففي يده كبد الإمبراطور مرفوعا يعرضه وقد شقه كأنما يعرضه في قاعة محاضرات، ويقول: "إن الجانب الخرب المتآكل من المعدة ملتصق بالكبد معتاق النمو، فما الذي يستخلص من هذا أيها السادة؟ إن مناخ سانت هيلانه قد ضاعف آلام المعدة، فقتل الإمبراطور قبل الأوان".

استمر نفور الإنكليز البارد من "نابليون" حتى بعد وفاته، وهو جثة هامدة في جزيرة نائية! يقول المؤرخ "لودفيغ": "وأبت إنكلترا نقل الجثمان إلى أوروبا، وحفر له قبر في إحدى الوهاد على ينبوع تظلله صفصافتان باكيتان، ودفن كما يدفن إنكليزي برتبة جنرال: أطلقت المدافع ثلاث دفعات هزيلة، ورفرفت في الريح الأعلام مسجلة عليها انتصارات الإنكليز في إسبانيا، وكان الحاكم على رأس الحاضرين فأعلن أنه يسامح الإمبراطور.

وغُطيت فتحة القبر بست بلاطات مما يرصف به قواعد المدافع، وأريد أن توضع بلاطة سابعة على قبر المدفعي، فلم يوجد، فنزعت ثلاثة قراميد من فرن مطبخ في بيت جديد، ووضعت فوق القبر.

وأريد نقش اسم نابليون على هذه القراميد فلم يسمح الحاكم بنقشه إلا مضافا إليه اسم بونابرت، فبقي القبر بلا نقش، وبيع أثاث لونجوود بالمزايدة فاشترى البيت مزارع جعل منه طاحونة، وأعيدت الغرفتان اللتان سكنهما الإمبراطور ست سنوات الى سابق عهدهما: زريبتين للبقر والخنازير.

ولم تكرم إنكلترا الميت إلا بشيء واحد: أقامت حارسا على قبره ظل يُغيّر تسع عشرة سنة، ونُقلت بعدها رفات الإمبراطور الى باريس".

(نابليون، إميل لودفيغ، جـ2، ص316).

كرست الموسوعة البريطانية بمختلف طبعاتها، وبخاصة طبعة 1911 المعروفة بثراء مادتها التاريخية والأدبية، العديد من الصفحات بلغت نحو 20 لتناول مختلف جوانب حياة نابليون وحروبه، في حين اكتفت طبعة 1980 بنحو ثماني صفحات، وتقول هذه الطبعة في المادة التي كتبها باحث فرنسي للموسوعة، عن بداية حياة نابليون في فرنسا، إن أهل "كورسيكا"، الجزيرة، التي ولد فيها نابليون، كانوا قاوموا الاحتلال الفرنسي لجزيرتهم وشكلوا حركة مقاومة بزعامة "باسكال بولي" Pasquale paoli وكان والد نابليون "كارلو بونابرت Buonaparte قد انضم لهذه الحركة، وعندما قرر قائدها "بولي" الهروب من الجزيرة، توصل والد نابليون الى تفاهم مع قوات الاحتلال، فحاز ثقة الحاكم، وتم تعيينه في منصب رسمي، وبعد سنوات نال ولداه "جوزيف" و"نابليون" موافقة السلطات على بعثة دراسية في كلية The college d, Autun. وعندما غادر نابليون للدراسة في الأراضي الفرنسية كان يعتبر نفسه لبعض الوقت غريباً في تلك البيئة>

ويفهم عن الموسوعة أن نابليون لم يكن متشبعاً آنذاك بالثقافة الفرنسية، وظل، كما تقول الموسوعة "كورسيكياً" "في مزاجه وشخصيته، لا يشارك بني جلدته الفرنسيين تقاليدهم وميولهم، فبقي في تعليمه وقراراته من رجال القرن الثامن عشر وكانت دراسته في ثلاثة معاهد أولها معهد Autun أوتون التي درس فيها فترة قصيرة، ثم درس فترة خمس سنوات في كلية "برين" Brienne العسكرية، وأمضى أخيراً عاماً، في الأكاديمية العسكرية بباريس.

وقد توفي والده خلال هذه الفترة بسرطان المعدة عام 1785، تاركاً أسرته في ظرف مادي صعب، مما اضطر نابليون إلى تولي مسؤولياته العائلية قبل بلوغه 16 عاماً، وكان تخرجه بترتيب لم يكن متميزاً، الثاني والأربعين في فصل فيه واحد وخمسون طالباً. وتتناول الموسوعة مدى تأثر نابليون بالأفكار الثورية وحماسه للجمهورية، فتقول إنه كان ممن يطالع كتب "فولتير" و"روسو"، وكان مؤمناً بضرورة التغيير السياسي، ولكنه كضابط عسكري محترف لم يكن متحمساً لأية إصلاحات اجتماعية جذرية.

ويقول كاتب المادة في الموسوعة "جاك غوديشو" Godechot أستاذ التاريخ الفرنسي الحديث في جامعة تولوز الثانية، ومؤلف العديد من الكتب في تقييمه لنابليون ودوره إن الكتب والدراسات عن هذه الشخصية توالت في الصدور، حيث نشر منذ بداية القرن حتى عام 1980 نحو مئتي ألف مجلد. ويقول إن نابليون ترك لفرنسا تراثا خالداً تمثل بهندسته فرنسا الحديثة، وتأسيس النظام الإداري، ووضع "قوانين نابليون" Code Civil des Francais عام 1804، وبناء نظام العدالة والمحاكم في فرنسا، وبنك فرنسا والمؤسسات المالية وإنشاء الجامعات والأكاديميات العسكرية، ويقول الأستاذ الباحث: "لقد غير نابليون تاريخ فرنسا والعالم".

(Encyclopaedia Britanica, 1980, v12.831.839)

دار الجدل دائماً عن موقف نابليون من الأديان ويقول الباحث إن "نابليون "كان يشارك "فولتير" قناعته بحاجة الناس الى الدين، أما على الصعيد الشخصي فقد كان محايدا أو لا مباليا Indifferent إزاء الدين، بل صرح في مصر برغبته في أن يدخل الإسلام (ص834) ومع هذا بذل نابليون جهده في تثبيت استقرار فرنسا في المجال الديني، وتفاوض مع أجل ذلك مع البابا الجديد "بيوس السادس" بعد توليه منصب البابوية عام 1800 نحو عشرة أشهر، وتوجت المفاوضات بتوقيع اتفاقية تفاهم Concordat، اعترف بموجبه "البابا" بإجراءات وقرارات المصادرة التي اتخذتها الثورة الفرنسية بحق أملاك الكنيسة والتشريعات النابليوينة وتأميم الكنيسة، وجرى التصالح بين الكنيسة والدولة، ونتج عن الاتفاق اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بحرية العبادة والطابع العلماني للدولة الفرنسية.

وتصف الموسوعة أيام نابليون الأخيرة في جزيرة "سانت هيلاته" بأن وطأة المرض بدأت بالاشتداد بنحو متسارع مع بداية عام 1821 مما اضطره إلى ملازمة الفراش مع شهر مارس، وفي أبريل أملى وصيته الأخيرة وجاء فيها: "أتمنى أن يستقر رماد جثماني على ضفتي "نهر السين" وسط الشعب الفرنسي الذي أحببته كثيراً...، إنني أموت قبل الأوان، فقد أجهزت على طغمة الإنكليز وقتلتهم المأجورين".

وفي الخامس من مايو نطق ببضع عبارات مفهومة مثل "ربي، الأمة الفرنسية، ابني، قائد الجيش" وتوفي نابليون في الساعة الخامسة و49 دقيقة مساء ذلك اليوم، قبل أن يبلغ الثانية والخمسين من العمر، وتم إلباسه الزي الرسمي المفضل لديه، وهو زي Chassurs de la garde، وذلك تحت المعطف الطويل الذي كان قد ارتداه في معركة مارينغو" Marengo وهي المعركة التي خاضها في 14 يونيو 1800 في سهل "مارينغو" شمالي إيطاليا، وحقق فيها بعض الانتصار على القوات النمساوية.

● خليل علي حيدر