يُعتبر قرار الرئيس جو بايدن بسحب القوات الأميركية المتبقية من أفغانستان بحلول سبتمبر المقبل نقطة تحوّل للبلد وجواره، تحترم الحكومة الأفغانية هذا القرار وتعتبره خياراً يحمل الفرص والمخاطر معاً على الأفغان وحركة "طالبان" والمنطقة ككل.

فاجأ القرار الأميركي "طالبان" وداعميها في باكستان وأجبرهم على القيام بخيار واضح. هل سيصبحون أصحاب مصلحة حقيقيين أم سينشرون المزيد من الفوضى والعنف؟ إذا اختارت "طالبان" المسار الثاني، فستحاربها قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية حتماً، وإذا رفضت الحركة التفاوض فستختار بذلك السلام الذي يأتي بعد احتدام المعارك.

Ad

لتجنب هذا المصير، يجب أن تجيب "طالبان" عن أسئلة محورية حول رؤيتها المرتبطة بأفغانستان: هل ستوافق مثلاً على إجراء انتخابات؟ وهل ستلتزم بحماية حقوق جميع الأفغان، بما في ذلك الفتيات والنساء والأقليات؟ يبدو أن الأجوبة على هذه الأسئلة ستكون سلبية وقد اتّضح ذلك حين قررت "طالبان" حديثاً الانسحاب من مؤتمر السلام الذي كان يُفترض أن يبدأ في اسطنبول في نهاية أبريل، حيث تهتم "طالبان" على ما يبدو بالسلطة أكثر من السلام حتى الآن، لذا ستكون التسوية السياسية واندماج عناصر "طالبان" في المجتمع والحكومة الطريقة الوحيدة للمضي قدماً، لكنّ الكرة أصبحت في ملعبهم اليوم.

أي مستقبل يطمح إليه الأفغان؟

يريد جميع أصحاب المصلحة الدوليين والمواطنين الأفغان أن تصبح أفغانستان دولة مستقلة، وإسلامية، وديمقراطية، وموحّدة، وحيادية، ومترابطة. أكد الشعب الأفغاني على دعمه لهذه الدولة النهائية في "مجلس السلام" في أغسطس 2020، وأكد المجتمع الدولي من جهته رغبته في نشوء تلك الدولة في مارس 2020، حين تبنّى مجلس الأمن القرار 2513 الذي يوضح أن العالم لا يريد عودة إمارة "طالبان".

لكن لم تتضح رغبات "طالبان" بعد، إذ تطالب الحركة بنشوء نظام إسلامي، لكنّ هذا النظام قائم أصلاً في أفغانستان، ولضمان نجاح أي مفاوضات تهدف إلى إقرار تسوية سياسية بين الحكومة الأفغانية و"طالبان"، يجب أن تُعبّر الحركة عن تفاصيل الدولة النهائية التي تريدها بكل وضوح.

ستواجه المفاوضات المرتقبة مسائل شائكة: كيف ستنهي "طالبان" مثلاً روابطها مع باكستان التي تمنحها دعماً لوجستياً ومالياً وتقدّم لها عناصر قتالية؟ يجب أن تتطرق المحادثات أيضاً إلى استمرار العلاقات بين "طالبان" وتنظيم "القاعدة"، ومن الضروري إذاً أن تتفق الحكومة الأفغانية و"طالبان" على مقاربة معينة ضد "داعش" و"القاعدة" وجماعات إرهابية أخرى، ويجب أن يشمل الاتفاق إطار عمل واضح لمكافحة الإرهاب، مما يضمن تلقي الدعم من دول إقليمية أخرى ومنظمات دولية متنوعة، كذلك، يجب أن يضمن الاتفاق استمرار الجهود الدبلوماسية الرفيعة المستوى في المنطقة ويرحّب بتدخّل الممثل الشخصي لأمين عام الأمم المتحدة.

حين تتوصل الحكومة الأفغانية و"طالبان" إلى تسوية معينة، يجب أن يدعمها الشعب الأفغاني علناً عبر أهم أداة تُعبّر عن الإجماع الوطني، أي مجلس "لويا جيرغا" الذي يجمع القادة، رجالاً ونساءً، من جميع المحافظات، فقد حُرِمت "طالبان" من الاندماج في المجتمع الأفغاني في آخر عشرين سنة، وقد يقدم لها مجلس "لويا جيرغا" فرصة مثالية للتفاعل مع جميع الشرائح الاجتماعية.

بعد التفاوض على تسوية سياسية وحشد الدعم الذي تستحقه، ستبدأ مرحلة شاقة أخرى لتنفيذها على أرض الواقع، إذ تتعلق هذه العملية ببناء السلام، حيث يميل الجميع دوماً إلى إعطاء طابع دائم للإجراءات المؤقتة، لذا يجب أن تعطي حكومة السلام الأولوية لإجراء انتخابات.

لكن يجب أن تتخذ القيادة الانتقالية في هذه الفترة سلسلة من القرارات الصعبة حول طريقة الحُكم، ومن الضروري أن تستمر الجهود في مجال التنمية الاقتصادية والتعليم والخدمات الصحية وقطاعات محورية أخرى في الدولة من دون رادع، وسيؤدي أي تعطيل لهذه الجهود إلى تداعيات كارثية على الشعب الأفغاني والاقتصاد عموماً، كذلك، من المنطقي أن تظهر أولويات جديدة مثل إطلاق سراح سجناء الحرب، ودمج عناصر "طالبان" في جميع قطاعات الحكومة والجيش والمجتمع، ومعالجة مشاكل من خسروا أحباءهم وأملاكهم ومعيشتهم خلال الحرب في آخر عشرين سنة.

على صعيد آخر، ستحصل أي حكومة مُنتخَبة حديثاً على تفويض مهم للحفاظ على السلام وتنفيذ بنود الاتفاق، وقد يتطلب هذا الهدف تعديل جوانب معينة من الدستور، وباستثناء الطابع الإسلامي للدولة وحقوق المواطنين الأساسية، يوضح الدستور أن جميع البنود الأخرى قابلة للتعديل، ويمكن اللجوء إلى آليات معينة لفرض تلك التعديلات.

ستواجه الحكومة الجديدة أيضاً مسألة إعادة دمج اللاجئين (لا سيما المجموعات التي هربت إلى إيران وباكستان)، وإعادة توطين النازحين داخلياً، وملف المصالحة الوطنية الذي يغفل عنه الجميع في معظم الأوقات، وفي غضون ذلك، يجب أن يُمهّد وقف إطلاق النار في المرحلة الانتقالية لنشوء ظروف تسمح لمؤسسات الدولة باحتكار استعمال القوة بطريقة شرعية، كذلك على أفغانستان أن تلتزم بالحياد الدائم لتقليص مخاطر اندلاع الصراعات الإقليمية. ستكون الجمعية العامة أو مجلس الأمن في الأمم المتحدة من أفضل الأدوات لترسيخ مكانة أفغانستان الحيادية وإعطائها طابعاً رسمياً.

مسار البلد المرتقب

لن يكون تحقيق سلام عادل ودائم مهمة سهلة حتى لو كانت الظروف مثالية، لكنّ الظروف القائمة ليست مثالية بأي شكل للأسف، حيث يرتفع احتمال أن ينحرف مسار هذه العملية أو تضطرب لأسباب معينة وقد يخسر الأفغان مجدداً فرصة إرساء السلام.

في المقام الأول، قد يميل عدد كبير من الأفغان إلى مغادرة البلد بسبب الشكوك المشتقة من التوقعات القاتمة التي تنشرها وسائل الإعلام، مما قد يؤدي إلى تكرار أزمة اللاجئين التي حصلت في عام 2015، فيُحرَم البلد بذلك من المواهب الكفؤة مع أنه بأمسّ الحاجة إليها في هذه المرحلة.

على صعيد آخر، قد تُهدد أي عملية انتقالية مضطربة أو عشوائية أنظمة القيادة والتحكم في القطاع الأمني المحلي، ويجب أن تبدأ عملية سياسية منظّمة لنقل السلطة كي لا تفتقر قوات الأمن إلى القيادة والتوجيه، كذلك، من الضروري أن تنفذ الولايات المتحدة وحلف الناتو التزاماتهما القائمة لتمويل قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية، وستكون هذه المساهمة أهم ما يستطيع المجتمع الدولي فعله لإطلاق عملية انتقالية ناجحة وإرساء السلام في أفغانستان.

لكن قد لا توافق الشخصيات السياسية الأفغانية على عملية سلام منظّمة، لذا يجب أن تكون هذه الخطة شاملة، فلا تقتصر على شخصيات سياسية محلية ومختلف شرائح المجتمع الأفغاني، بل تشمل أيضاً لاعبين إقليميين لمنعهم من محاولة إفساد العملية.

يُعتبر سوء التقدير من جانب "طالبان" أكبر مصدر خطر على السلام، إذ لا تزال الحركة مقتنعة حتى الآن بأنها هزمت حلف الناتو والولايات المتحدة، وهذا ما يفسّر زيادة جرأتها، ووبما أن قادة الحركة السياسيين لم يشجعوا فرعها العسكري يوماً على تقبّل فكرة السلام، فقد تُصِرّ "طالبان" على إثبات عدم جدّيتها في عقد اتفاق سياسي، فتختار متابعة الاعتداءات العسكرية.

إذا حصل ذلك، فستكون الحكومة الأفغانية وقوات الأمن مستعدة للمواجهة، وفي حين نتجه للمشاركة في محادثات السلام مع "طالبان"، نحرص على الاستعداد لمواجهتها في ساحة المعركة أيضاً، وفي آخر سنتين، نفّذت قوات الأمن الأفغانية أكثر من %90 من العمليات العسكرية الأفغانية، وإذا اختارت "طالبان" العنف، فستنطلق مواجهة كبرى خلال أشهر الربيع والصيف، ثم تضطر "طالبان" في النهاية للعودة إلى طاولة المفاوضات.

في الوقت نفسه، قد تخطئ باكستان في حساباتها لدرجة أن تُهدد السلام، فقد برزت مؤشرات إيجابية مفادها أن باكستان ستختار مسار التواصل الإقليمي والسلام والازدهار، وقد اتّضح ذلك في الملاحظات التي قدّمها رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، ورئيس أركان الجيش الباكستاني، الجنرال قمر جاويد باجوا، خلال "حوار إسلام أباد الأمني" في شهر مارس، وقد تشير تلك الملاحظات إلى حصول تحوّل بالغ الأهمية من مقاربة مدمّرة إلى استراتيجية بنّاءة في علاقة البلد مع أفغانستان، وقد حان الوقت الآن لتحويل تلك المواقف إلى تحركات ملموسة.

لكن إذا اختارت باكستان أن تدعم "طالبان"، فستفضّل إسلام أباد بذلك أن تعادي الدولة الأفغانية وتتخلى عن المنافع الاقتصادية الهائلة التي يضمنها السلام والتواصل الإقليمي، ونتيجةً لذلك، قد تصبح باكستان دولة منبوذة على مستوى العالم لأنها ستخسر نفوذها غداة الانسحاب العسكري الأميركي. أخطأت الحكومة الباكستانية في حساباتها حين ردّت على خطة العمل الأميركية في أفغانستان والمنطقة، لكن لم يفت الأوان بعد كي تتحول إسلام أباد إلى شريكة وصاحبة مصلحة حقيقية في عملية سلام منظّمة.

وفي حين نتجه اليوم نحو المجهول في أفغانستان، أفضّل التركيز على تحقيق أفضل نتيجة ممكنة بعد هذا الصراع الطويل، أي بناء دولة أفغانية مستقلة، وإسلامية، وديمقراطية، وموحّدة، وحيادية، ومترابطة، وأنا مستعد لتقديم التنازلات والتضحيات لتحقيق هذا الهدف، وسيكون انسحاب القوات الأميركية فرصة لتقريبنا من بناء تلك الدولة النهائية، شرط أن يلتزم جميع الأفغان وشركاؤهم الدوليون بمسار واضح في المرحلة المقبلة ويتمسكوا به في جميع الظروف.

أشرف غني – فورين أفيرز