وجه د. عبدالله النفيسي المزيد من الانتقادات لجماعة الإخوان ومرشدها "حسن البنا"، في مقالاته التي نشرها عام 1989، والتي جمعها في كتاب "ثغرات في الطريق"، كما استعان فيها ببعض آراء الإسلامي التونسي "راشد الغنوشي"، ونعرض بعض آراء "د. النفسي" و"الغنوشي" في هذا المقال، كنماذج نقدية لآراء "الإخوان" في المرشد والجماعة.

يقول د. النفيسي منتقدا مظاهر هدر الطاقات في "الجماعة": "تضم الحركة الإسلامية نخبة جيدة من الاختصاصيين، إلا أن قيادة الحركة- في العموم- لا تدرك أهمية هذه الميزة، دع عنك توظيفها التوظيف المطلوب".

Ad

وينتقد د. النفيسي المواد الفكرية والثقافية التي يطالعها الإخوان في اجتماعاتهم الحزبية التي تسمى عادة "الأسرية"! وسبب إهمال الحركة لطاقات أعضائها، يقول، "إن كل الذي تطلبه الحركة منهم هو دفع الاشتراك، وحضور اجتماع أسبوعي (الأسرة) لاجترار (منهاج ثقافي) ربما يصلح لتأهيل الفرد ثقافيا للعصر العباسي، لكن بالقطع لا يصلح لتأهيله ثقافيا للقرن العشرين".

ويتهم د. النفيسي الحركة بالتمييز في تعاملها مع الأعضاء بين الغني والفقير! فيقول: "قيادة الحركة الإسلامية تتعامل مع الاختصاصي والأمي بالطريقة نفسها، أليس الناس سواسية كأسنان المشط؟ ما عدا نجوم المال فأسنان المشط الذي يستعملونه تختلف عن الذي ورد في نص الحديث كما يبدو، نجم المال هو الاختصاصي الوحيد الذي يحظى باحترام وتبجيل قادة الحركة، ومن المؤسف أن نجوم المال ورجال الأعمال أصبحوا من خلال هباتهم ومنحهم للحركة يساهمون بدرجة ملحوظة في توجيه الحركة والتحكم بشبكة علاقاتها السياسية في كثير من الأحيان". (ثغرات، ص29).

وتناول د. النفيسي "أخطاء" سياسية للإخوان، تتعلق باستخدام القوة والانقلابات العسكرية لتغيير الأنظمة، فحذر "الحركة الإسلامية" من قصر النظر والارتجال وقال: "من الأخطاء التاريخية التي وقعت فيها الحركة الإسلامية هي تحالفها مع العساكر والأنظمة العسكرية وذلك طمعا ورغبة وشوقا لتطبيق الشريعة. لقد نوقشت هذه القضية مطولا بعد سقوط جعفر النميري في السودان ومقتل محمد ضياء الحق في باكستان غير أن الحركة الإسلامية عموما مازالت لديها قابلية التحالف مع العساكر بغية تطبيق الشريعة برغم فشل التجربة في السودان وباكستان". (ثغرات، ص97).

وقعت جماعة الإخوان في السودان وباكستان ضحية التعجيل والارتجال وأشياء أخرى! فكان التحالف مع الجنرال النميري أبرز تجارب المشاركة في الحكم للإخوان المسلمين في السودان. وقد حكم الجنرال النميري السودان (1969- 1985) بعد انقلاب عسكري، حيث قام بحل المجلس الرئاسي والحكومة والبرلمان، ومنع الأحزاب السياسية، وأقام مجلسا ثوريا برئاسته كهيئة عليا في البلاد، الى جانب تعيين نفسه قائدا عاما للقوات المسلحة ثم رئيسا للوزراء، "وانتخب" رئيسا عام 1971 في انتخابات كان النميري فيها المرشح الوحيد، وأعيد انتخابه عام 1977 و1983 رئيسا للجمهورية ولمجلس الوزراء! وبعد تجارب ومحاولات مع القوى الدينية والفرق الصوفية تحالف مع "الإخوان المسلمين"، حيث أعلن نظام النميري البدء بتطبيق الشريعة وبخاصة إقامة الحدود! دافع الإخوان المصريون وغيرهم بحماس عن نظام النميري وتطبيقه للشريعة، دون أي انتقاد للخطوات الاستبدادية ضد الديمقراطية التي أقدم عليها النميري بعد انقلاب 1969.

وفي مقابلة صحافية بمجلة "الأسبوع العربي" سألت المجلة مرشد الإخوان "عمر التلمساني": "ما تعليقكم على قرار السودان تطبيق الشريعة الإسلامية"؟ فأجاب: "أسعدنا أن تطبق حكومة السودان شرع الله في عباداتها ومعاملاتها ونحن لا نجري وراء الشائعات التي تريد أن تشوه جمال هذه الاتجاه وتحرص على أن تشككنا في كل اتجاه إسلامي تقدم عليه دولة من دول الإسلام. نحن مع هذا الاتجاه ونؤيده ونتمنى نجاحه، وسمعنا عن أحد الصادقين في السودان أنه بعد تطبيق الشريعة الإسلامية، انخفضت نسبة الجريمة في السودان من 87% إلى 40% وحسبك هذا تقدما في الخير".

(الأسبوع العربي، 27/ 4/ 1984).

تراجعت جماعة الإخوان عن تأييد نظام النميري بعد رحيل المرشد عمر التلمساني في مايو 1986، وصرح المرشد الجديد "محمد حامد أبو النصر" لصحيفة "الاتحاد" بدولة الإمارات، "نحن لا نقر بتجاوزات تجربة السودان، لأنها لم تكن إلا تطبيقا متعجلا ومبتورا دون استكمال واستيفاء". (الاتحاد، 5/ 6/ 1986).

كان الزعيم الإخواني د. حسن الترابي (1932-2016) صاحب الدور البارز في تجارب الأنظمة الإسلامية وتطبيق الشريعة في السودان، وكان يرى أن الشورى أرقى وأفضل من الديمقراطية الغربية، ذلك أن "الحرية في الإسلام لها أبعاد غيبية وعقدية، أما الحرية الليبرالية فهي قانونية وسياسية وليست دينية أو مقدسة"، ولا ندري كم من هذا الرقي والأفضلية نجح د.الترابي في تطبيقها في تجارب السودان.

اشتهر د. الترابي بجرأته الفقهية التي كانت تبرر تحولاته السياسية وتنقل عنه بعض المراجع قوله: "إن كل أصول الدين وفروعه هي أفكار تطورت في الممارسة التاريخية، ولذا هي عرضة للتغيير حسب حاجات الجماعة، وكان ينفي أن أصول الدين وفروعه "تمتلك القوة المعيارية المنسوبة اليها"، مما يعني "أن استبدالها بأصول وفروع جديدة لا يشكل انتهاكا للدين".

(انظر موسوعة الحركات الإسلامية في الوطن العربي، د. أحمد الموصللي، بيروت 2004، ص186).

أما محمد ضياء الحق فقائد عسكري تسلم حكم باكستان بعد نجاح انقلابه في يوليو 1977 ضد دكتاتورية ذوالفقار علي بوتو اليسارية، حيث أعدمه بعد عامين، فبدأ "ضياء الحق" وسط تأييد الإسلاميين، بما سماه "تطبيق الشريعة الإسلامية"، مستفيدا على وجه الخصوص من التدخل السوفياتي في أفغانستان، حيث انهالت المساعدات ضد الروس من الولايات المتحدة والدول الخليجية والجماعات الإسلامية في العالم العربي وغيره. وأصبحت باكستان ونظام ضياء الحق المحور الرئيس في الاستفادة من هذه المساعدات الضخمة، المالية منها والعينية والسياسية والحزبية وغيرها، لإفشال التدخل السوفياتي، كما استفادت باكستان كذلك بحصولها على الموافقة الأميركية على برنامجها النووي، كما كان ضمن هذا التدخل المعادي للغزو الروسي محاولة تحريك "الجمهوريات الإسلامية" في الاتحاد السوفياتي ضد النظام في موسكو، وعمت باكستان كذلك المدارس الدينية بالمئات، نحو 2500 مدرسة تقدم لطلاب المناطق الريفية التعليم الديني الحزبي، والتعبئة السياسية وفق هوى الجماعات الدينية وهوى نظام "ضياء الحق" وحلفائهما.

وقدمت هذه الجهات للطلاب الفقراء، إلى جانب "التعليم الديني"، المسكن ووجبات الطعام والمصروفات مستفيدة من الأموال الأميركية والخليجية المتدفقة على "الجهاد الأفغاني"، حيث أصبحت باكستان وبعض مناطق أفغانستان تعج بالمجاهدين من كل الجنسيات، ومن القوى التي تطورت في هذه الأجواء جماعة "طالبان" الإجرامية التي لا تزال تمارس إرهابها وتفجيراتها ضد الشعب الأفغاني المبتلى بهم.

وقد بنت المخابرات الباكستانية علاقات وطيدة مع "طالبان" والجهاد الأفغاني، ووجهتهما لدعم مجهود باكستان الحربي في كشمير ضد الهند، وكذلك ضد نجاح أي نظام معتدل في أفغانستان، حيث تطالب أفغانستان بمنطقة "بلوجستان" التي يعتبرونها محتلة من قبل الباكستانيين وهذه بعض أسباب المأساة الأفغانية المستمرة منذ عقود، إذ إن جيرانها، وبخاصة باكستان، ليست راغبة في نهوض دولة أفغانستان من جديد، التي ربما تتحالف ضد باكستان مع إيران أو الهند، وتطالب باسترجاع بلوجستان أو مقاطعات أخرى "مسكوت عنها"!

بادر الجنرال "ضياء الحق" فور تسلمه السلطة إلى فرض الدكتاتورية والأحكام العرفية وتعليق الانتخابات العامة إلى أجل غير مسمى ولكن "استفتاء عام 1985 كان لصالح صعود ضياء لرئاسة البلاد، حيث عمد ضياء الحق بعدها الى رفع الأحكام العرفية، وعودة أحزاب المعارضية وبالانتخابات، غير أن "ضياء الحق" لقي حتفه في حادث طيران في أغسطس 1988، وكان برفقة السفير الأميركي ومجموعة من الباكستانيين الرسميين.

استعان "ضياء الحق" في تدعيم أركان نظامه واستمرار حكمه بالتيار الإسلامي، وبخاصة تيار الإخوان في باكستان ممثلا في "الجماعة الإسلامية"، الحزب الذي أسسه عام 1941 المفكر الإسلامي أبو الأعلى المودودي (1903-1979) صاحب التأثير الفكري الأكبر على "سيد قطب" والإخوان والإسلاميين في كل مكان، كما كانت تربط الجنرال "ضياء الحق" علاقة قرابة بزعيم و"مرشد" الجماعة الجديد.

أضفت علاقة "ضياء الحق" بالجماعة الإسلامية الشرعية الدينية على حكمه وشملت الأسلمة القوانين والاقتصاد والحياة العامة ونظام الانتخابات مثل إيجاد دوائر انتخابية منفصلة لغير المسلمين، وتخصيص مقاعد برلمانية للنساء، كما أعيدت تسمية المدن والشوارع والجامعات والمرافق العامة في جميع أنحاء باكستان لإضفاء الصبغة الإسلامية، وطلب من جميع الوزارات تخصيص أماكن للصلاة أثناء وقت العمل، على أن يتولى رئيس كل إدارة إمامة المصلين في وزارته!

ودعا "ضياء الحق" في عام 1979 الى مراجعة الكتب الدراسية ومناهج التعليم في باكستان وتغييرها بكتب دراسية ذات توجه "إسلامي"، ويقول د. حسن حمدان العلكيم في دراسة له إنه في 5 يونيو 1988، قبيل وفاته بقليل، أصدر ضياء الحق مرسوما ينص على تطبيق الشريعة الإسلامية، فأصبحت القوانين بموجب هذا المرسوم تستمد شرعيتها من درجة اتفاقها مع الشريعة الإسلامية ويشمل ذلك المحاكم والاقتصاد ومناهج الدراسة ووسائل الإعلام. ورغم تخلي الأحزاب الإسلامية عن تأييد "ضياء الحق" ونظامه الدكتاتوري العسكري، حافظت الجماعة الإسلامية على صلتها الوثيقة به، إذ تقلد العديد من أعضاء الجماعة مناصب حكومية.

(قضايا إسلامية معاصرة، د. حسن حمدان العلكيم، القاهرة 1997، ص125).

ونعود إلى ما جاء في مقال د. حامد الحمود من تشكيك في الرؤية المستقبلية الشاملة لدى مرشد الإخوان "حسن البنا"، فنجد سنداً قويا لذلك في مقالات د. النفيسي، الذي يقول تحت عنوان "ثغرة في خطاب البنا رحمه الله"، فبعد الترحم يقول ناقدا: "الذي يتأمل ساحة مصر السياسية منذ سنة 1928 حتى الآن يلاحظ أن علاقات الإخوان المسلمين ببقية الأطراف السياسية في تلك الساحة (أحزابا ونقابات بالأخص) كانت دائما متوترة وغير إيجابية وأظن- والظن أحيانا يفيد اليقين- أن مرجع ذلك يعود لموقف مؤسس الجماعة حسن البنا رحمه الله من الأحزاب وبقية الأطراف السياسية في الساحة المصرية. لقد كان خطاب البنا منددا بالأحزاب بل أحيانا محرضا للدولة المصرية ضدها، وهذا برأيي يعكس- لديه- غياب النظرية المتكاملة لعلاقاته السياسية داخل مصر". (ثغرات، ص47).

ويرى د. النفيسي كذلك أن رؤية البنا للمجتمع المصري في تلك المرحلة كانت مفتقرة الى التركيز والفهم الحقيقي لواقعه فـ"عندما كان البنا يخاطب المجتمع السياسي المصري- يبدو- وكأنه يخاطب مجتمعا خاليا من الفرقاء والمنازع، والمدارس الفكرية والسياسية والهيئات والجهات، والأحزاب والنقابات وغير ذلك من تشكيلات المجتمع السياسي العصري. ومن الواضح لكل قارئ لخطاب البنا- وهو مؤسس لخطاب جماعة الإخوان- أن الرجل كان ضد (التعددية) وخاصة السياسية، ولم يكن من المعقول أن تتقبل (الأحزاب المصرية) كلام البنا في هذا المجال وهو القادم الجديد الى الساحة، خاصة أن بعض تلك الأحزاب (كالوفد مثلا) قد حكم مصر أكثر من مرة وله وجوده السياسي في الجمهور المصري". (ص47).

ويستعين د. النفيسي في نقده للإخوان و"حركة البنا" بما يقوله الزعيم الإسلامي التونسي، الذي هو موضع إعجاب د. حامد الحمود كذلك، "راشد الغنوشي"، والذي لا يقل نقده للإخوان وللحركة الإسلامية عن د. النفيسي.

يقول "الغنوشي": "هناك خطأ سياسي شنيع ارتكبته حركة البنا ولا يزال متواصلا وهو أن الحركة الإسلامية تقدم نفسها وصيا على المجتمع وليس طرفا سياسيا أو فكريا يستمد مشروعيته من قوة الحجة وإقناع الجماهير ببرامجه. إن الحركة الإسلامية مازالت تستنكف بشدة أن تعتبر نفسها كبقية الأطراف السياسية- شيوعية أو اشتراكية أو ديمقراطية- طرفا من المجتمع، ومن هذا المنطلق طالبت حركة البنا (الإخوان) بحل الاحزاب ومازال ضمير الحركة الإسلامية- في وعيه أو لا وعيه- يستنكف أن يكون حزبا ويشمئز من قضية الأحزاب ويصر على أن يكون ناطقا باسم المجتمع، باسم الإسلام، باسم المسلمين".

(ثغرات في الطريق، ص47-48).

خليل علي حيدر