اعتبرت الهند نفسها في "المراحل النهائية" من الوباء منذ أسابيع قليلة، لكنها أصبحت اليوم بؤرة عالمية للفيروس، فقد تجاوز هذا البلد حديثاً عتبة كارثية ليسجّل أكثر من 345 ألف إصابة جديدة بفيروس "كوفيد19" في يوم واحد، وهو أعلى رقم مسجّل عالمياً منذ بدء الوباء.

قد يكون تفشي الوباء في الهند مأساة كبرى للسكان المحليين، لكنه يشكّل كارثة فعلية لبقية دول العالم أيضاً، حيث يتكل 92 بلداً نامياً على الهند التي تشمل "معهد سيروم"، أكبر مُصنّع للقاحات في العالم، لتلقي الجرعات القادرة على حماية شعوبها، لكن الإمدادات المنتظرة أصبحت في مهب الريح الآن نظراً إلى تركيز الهند على واجباتها الداخلية، وفي غضون ذلك، لا يكف فيروس كورونا عن التحوّل، وتزداد المخاوف اليوم من ألا تنحصر المشكلة في الهند نظراً إلى وفرة التقارير التي تشير إلى ظهور سلالات فيروسية مزدوجة أو حتى ثلاثية.

Ad

لم يكن الوقت مناسباً يوماً للتدخل أكثر من الوقت الراهن، لكن قادة العالم ينشغلون بشؤونهم الداخلية الآن وقد اكتفوا بالتعبير شفهياً عن ضرورة تكثيف التعاون الدولي، ربما استفادت الدول التي تملك كمية كبيرة من اللقاحات، مثل الولايات المتحدة، من هذه المقاربة حتى الآن، لكن قد يثبت لها وضع الهند أن الاستراتيجية التي تعتمدها تبقى محدودة.

كيف وصلت الهند إلى هذه المرحلة بعدما كانت مقتنعة منذ شهر واحد فقط بأنها تجاوزت أسوأ مرحلة من الوباء؟ يقول مايكل كوغلمان، نائب مدير برنامج آسيا في "مركز ويلسون" في العاصمة واشنطن، إن الجواب يتعلق بمجموعة من العوامل المتراكمة التي تشمل متغيرات جديدة وسابقة، وغياب تقنيات التسلسل الجيني الفاعلة لتعقبها، واستمرار المسيرات السياسية والتجمعات الدينية الحاشدة (من دون تطبيق تدابير التباعد الاجتماعي أو استعمال الأقنعة)، واكتفاء الحكومة الهندية بالوضع القائم، علماً أنها تباطأت في التعامل مع الأزمة الصحية وأعلنت انتصارها على الوباء في مرحلة مبكرة.

نتيجةً لذلك، غصّت المستشفيات بالمرضى، وتراجعت إمدادات الأوكسجين، وامتلأت المشارح بالجثث، حيث تجاوزت الهند عتبة الألفَي وفاة يومياً في الأسبوع الماضي، وتقتصر هذه الأرقام على الحالات المسجّلة، فأستاذ الإحصاء الحيوي وعلم الأوبئة في جامعة "ميشيغان"، بهرامار مخرجي يتعقب الوضع في الهند ويتوقع أن ترتفع تلك الأرقام في الفترة نفسها من الشهر المقبل وتصل إلى 4500 حالة وفاة يومياً، ويحذر آخرون من أن تصل الأرقام إلى 5500، لكن رغم اختلاف التوقعات في هذا المجال، تبقى الاستنتاجات النهائية متشابهة: تشير جميع المعطيات إلى وضع قاتم جداً!

أصبح الوضع سيئاً لدرجة أن يعلن "معهد سيروم" الهندي في منطقة "بيون"، أنه لن يتمكن من تنفيذ التزاماته الدولية في ظل النقص الحاد داخل الهند. يُصنّع هذا المعهد لقاح "أسترا زينيكا"، وهو من أبرز المساهمين في مبادرة "كوفاكس" التي تهدف إلى تأمين جرعات اللقاح إلى الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، بعدما كانت الهند تُعتبر صيدلية العالم، أصبحت مضطرة اليوم لاستيراد الجرعات.

لكنّ إخفاقات الحكومة الهندية لا تبرر عدم اهتمام العالم بما يحصل في هذا البلد، وبعيداً عن الأسباب الأخلاقية الواضحة، ثمة أسباب عملية أيضاً، حيث تطرح الموجات الوبائية الخارجة عن السيطرة في أي مكان تهديداً على جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الدول التي تملك اللقاحات مثل الولايات المتحدة، فربما يتعلق أكبر مصدر قلق اليوم، في الهند وأماكن أخرى، بالمخاطر التي تطرحها المتغيرات المُعدية واحتمال أن تتغلب على المناعة التي يطوّرها اللقاح، ورغم رصد جميع المتغيرات المعروفة في الهند، منها تلك التي ظهرت في بريطانيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، تبقى السلالة الهندية الأكثر شيوعاً في بعض الولايات.

تقول كريستينا باغيل، مديرة أبحاث العمليات العيادية في جامعة "كوليدج لندن"، إن الوضع في الهند مشابه جداً لما حصل في مدينة "ماناوس" البرازيلية التي واجهت موجة وبائية مريعة، وليست مصادفة برأيها أن تظهر هذه المتغيرات وسط المجموعات السكانية التي طوّرت مناعة عبر التقاط العدوى.

تبرز أيضاً مشكلة تأمين اللقاحات، فقد اتّضح دور الهند كواحدة من أبرز منتجي الأدوية خلال زمن الوباء، فوفرت 20% من الأدوية الجنيسة على مستوى العالم، وأكثر من 60% من اللقاحات العالمية مع أنها لم تُعطِ اللقاح لأكثر من 1% من سكانها ضد فيروس "كوفيد19"، كما تستطيع الهند أن تُصنّع 70 مليون جرعة شهرياً، لكن رغم تخصيص جميع هذه الجرعات للحاجات المحلية، فلن تكون هذه الكميات كافية لتلبية حجم الطلب الهائل، وفي الوقت الراهن، توفر الهند نحو 3 ملايين جرعة يومياً، ولحماية سكانها (يصل عددهم إلى 1.4 مليار نسمة)، يجب أن ترتفع هذه الكمية بثلاثة أضعاف برأي بهرامار مخرجي.

لن يكون التبرع بجرعات اللقاح إلى الدول التي تحتاج إليها، بما في ذلك الهند، ممكناً بالنسبة إلى عدد كبير من البلدان، إذ تبقى كمية اللقاحات التي تملكها معظم الدول غير كافية، ولا تثق الدول التي تملك فائضاً كبيراً من الجرعات، مثل الولايات المتحدة، بأن إمداداتها تكفيها كي توزع الكميات المتبقية.

لكن تستطيع هذه الدول أن تقدم المساعدة بطرق أخرى، منها رفع الضوابط المفروضة على تصدير المواد الخام المستعملة لإنتاج اللقاحات، وهذا ما طلبه المدير التنفيذي لمعهد "سيروم" من إدارة بايدن منذ أسابيع، ويوم الأحد قبل الماضي تنبّهت الحكومة الأميركية إلى أهمية هذا الطلب وأعلنت أنها ستحاول تأمين المواد الخام فوراً لمساعدة الهند على إنتاج لقاح "أسترا زينيكا" المعروف محلياً باسم "كوفيشيلد"، بالإضافة إلى توفير إمدادات طبية أخرى، كذلك تعهدت الحكومتان البريطانية والألمانية بدعم الهند.

يقضي خيار آخر بأن تدعم الدول الطلب الذي قدّمته الهند وجنوب إفريقيا أمام منظمة التجارة العالمية لتخفيف إجراءات براءات الاختراع المرتبطة بلقاحات وعلاجات "كوفيد19" مؤقتاً لتسهيل عملية تصنيعها في الدول التي تواجه مصاعب مستمرة في تلقيح شعوبها، من دون الخوف من التعرض للملاحقة القضائية. ناشد أكثر من 70 زعيماً عالمياً سابقاً و100 شخص فائز بجائزة نوبل إدارة بايدن لدعم هذا الطلب، وانضم إليهم عدد كبير من المشرعين الأميركيين. يقول السيناتور كريس ميرفي، وهو واحد من 10 ديمقراطيين في مجلس الشيوخ دعوا إدارة بايدن إلى دعم هذه الجهود: "إذا أردنا استرجاع الدور الأميركي في قيادة العالم خلال حقبة ما بعد ترامب، فيجب أن نساعد الدول الأخرى في تلقي المهارات التكنولوجية التي تحتاج إليها لتصنيع لقاحاتها بنفسها كي تتمكن من محاربة الفيروس. إنها طريقة سهلة وفاعلة كي تقدم الولايات المتحدة المساعدة".

تستطيع الدول أن تقدم المساعدة أيضاً بطرق متنوعة أخرى وبغض النظر عن حجم مواردها، منها مساعدة نيودلهي على تأمين تقنيات التسلسل الجيني أو التبرع بالأوكسجين الذي أصبح اليوم حاجة مُلحّة في الهند.

ربما بدأت حملات التلقيح الجماعية تكبح مسار الوباء في بعض الدول، لكن يأتي وضع الهند ليذكرنا بأن الطريق لا يزال طويلاً في دول أخرى، حيث يتجه العالم هذه السنة إلى تسجيل حالات وفاة تفوق معدلات 2020 بسبب "كوفيد19"، ولن تنحصر مخاطر السماح باستفحال الموجات الوبائية الراهنة في أماكن مثل الهند في تلك الدول وحدها، بل إن ظهور متغيرات جديدة وتأخير توزيع اللقاحات بطريقة منصفة سيؤثران على الجميع حتماً، بما في ذلك الجماعات التي تلقّت اللقاح. باختصار، تُعتبر مشكلة الهند الراهنة مشكلة العالم أجمع!

ياسمين سرحان- أتلانتيك