في الملف الصيني، توصّل صانعو السياسة الأميركية إلى إجماع شبه كامل: تطرح الصين اليوم تهديداً يفوق مخاطرها منذ عشر سنوات، لذا يجب التعامل معها الآن بناءً على سياسات تنافسية متزايدة، ويُركّز النقاش المحدود حتى الآن على مسائل مرتبطة بطريقة تعزيز المصداقية الأميركية، والدور الذي يُفترض أن يؤديه حلفاء واشنطن للتصدي للصين، وإمكانية كبح أسلوب الإكراه الاقتصادي الصيني، لكن هذه المقاربة تغفل عن أهم سؤال في هذا المجال: هل يجب أن تُضعِف الولايات المتحدة التزاماتها في شرق آسيا لتخفيض احتمال خوض الحرب مع الصين؟

تبرز الحاجة إلى التناقش حول الالتزامات التي يجب أن يتمسك بها البلد وتلك التي يحتاج إلى التخلي عنها كلما حصلت تحولات كبرى في ميزان القوى العالمي. قد تتمكن أي قوة صاعدة من تحقيق أهداف كانت مستحيلة سابقاً أو ربما تُحدد أهدافاً جديدة أيضاً، أما القوة المتراجعة فقد تستنتج في نهاية المطاف أن التزاماتها القائمة باتت تترافق مع تكاليف ومخاطر كبرى لدرجة أن تعجز عن التمسك بها إلى ما لا نهاية.

Ad

لكنّ الجدل الناشئ حول السياسة الأميركية تجاه الصين لا يعترف إلا بنصف المنطق الكامن وراء نظرية تراجع القوة الصينية، حيث يدرك المسؤولون والمحللون أن الصين ستطرح تحديات متزايدة على الالتزامات الأميركية في ظل تراجع قدراتها، مما يعني تصاعد احتمال الحرب، لكن ينسى هؤلاء الجزء الثاني من المعادلة: بالنسبة إلى أي قوة متراجعة، يقضي أفضل خيار بتقليص نطاق التزاماتها، ففي شرق آسيا، يعني ذلك توسيع هامش المناورة لمصلحة بكين في بحر الصين الجنوبي، والتخلي عن تايوان، وتقبّل فقدان الولايات المتحدة قوتها الطاغية في المنطقة. إنها خيارات صعبة، لكنّ الحفاظ على الوضع الراهن هو خيار محتمل آخر مع أنه يزداد خطورة مع مرور الوقت.

لا داعي للقلق على الأرجح من نتائج سيطرة الصين على تايوان وتأثيرها على الإمكانات التي تسمح لها بمحاربة الولايات المتحدة، فحتى لو أصبحت الغواصات الصينية المسلّحة نووياً قادرة على الوصول إلى المحيط الهادئ حديثاً، فلن تتراجع القدرات الأميركية الانتقامية، بل سيبقى نظام ردعها فاعلاً جداً، ومن الصعب تقييم حجم التهديد العسكري التقليدي، لكن تثبت الأدلة المتاحة أن التهديد الذي تطرحه الغواصات الصينية قد يكون أكبر حجماً، لكن ليس بدرجة مفرطة. لا داعي للهلع إذاً حتى لو زادت القدرات الصينية التقليدية بسبب سيطرة بكين على تايوان، وبما أن الولايات المتحدة لن تبقى ملتزمة بحماية تايوان، فإن احتمال اندلاع حرب شاملة مع الصين سيتراجع سريعاً.

بعد تايوان، تهتم الولايات المتحدة ببحر الصين الجنوبي في منطقة شرق آسيا، ففي هذه المساحة المائية، يظن بعض المحللين أن واشنطن تريد منع الصين من وقف تدفق التجارة، فقد التزمت الولايات المتحدة منذ وقت طويل بالحفاظ على حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، وعقدت التزامات مبهمة لحماية مطالب الفلبين البحرية، وانتقدت الصين لأنها بَنَت قواعد عسكرية في جزر «سبراتلي».

مجدداً، قد تكون مخاطر إنهاء هذا الالتزام مبالغاً فيها على الأرجح، ففي زمن السلم، تهتم جميع الدول طبعاً بإبقاء تلك الممرات البحرية مفتوحة، لكن حتى لو اندلعت الحرب، فقد تبدأ عمليات الشحن التي تمر ببحر الصين الجنوبي في العادة بعد مضيق ملقا بتجاوز ذلك البحر، فتصل إلى اليابان وكوريا الجنوبية عبر مياه الأرخبيل في إندونيسيا والفلبين، وفي المقابل قد تواجه الصين وضعاً أكثر صعوبة، حيث ستضطر السلع القادمة من أهم موانئها أو المتجهة إليها للعبور ببحر الصين الجنوبي، وحتى لو نجحت الصين بطريقةٍ ما في حل هذه المشكلة، فإن معظم العمليات التجارية الصينية ستضطر للعبور بالمحيط الهندي الذي يبقى تحت سيطرة القوات البحرية الأميركية.

لا تُعتبر جميع المصالح متساوية بطبيعتها ولن تكون التهديدات المطروحة عليها متكافئة أيضاً، فما الذي يدفع الولايات المتحدة إذاً إلى التعامل مع مصالحها المتنوعة في شرق آسيا بالطريقة نفسها؟ تُعتبر التحالفات مع اليابان وكوريا الجنوبية مهمة وقليلة المخاطر نسبياً، لذا يُفترض أن تتابع واشنطن حمايتها، لكن في ما يخص التزاماتها تجاه تايوان وبحر الصين الجنوبي، لا يسهل الدفاع عن المنطق الكامن وراء السياسة الراهنة، حيث تكثر الحجج التي تدعو الأميركيين إلى إضعاف تلك الالتزامات.

صفقة كبرى

قد تتخذ التنازلات المطلوبة بشأن هذه المصالح أشكالاً متنوعة، أبرزها عقد صفقة كبرى وحاسمة حيث توافق الولايات المتحدة على إنهاء التزامها تجاه تايوان مقابل موافقة الصين على حل النزاعات مع الأطراف الأخرى في بحر الصين الجنوبي، لكن لم تعد الظروف مناسبة لفرض هذا النوع من التسويات الجيوسياسية، فقد زادت الصين مواقفها الصارمة إزاء بحر الصين الجنوبي والدور الأميركي في شرق آسيا.

نتيجةً لذلك، تبقى الولايات المتحدة أمام خيار أقل جاذبية: تخفيض الالتزامات الأميركية بطريقة أحادية الجانب، فقد يتخذ هذا الخيار شكل الاسترضاء، مما يعني تقديم تنازلات معينة من دون توقّع شيء في المقابل، وتهدف هذه المقاربة إلى تحقيق مصالح الصين التي تطبّق سياسة توسعية، لكن الاسترضاء سيكون رهاناً سيئاً في الوقت الراهن لأن بكين تطالب بانسحاب أميركي كامل من شرق آسيا، ويقضي رهان أفضل بتخفيض التكاليف المتوقعة، إذ تستطيع الولايات المتحدة أن تنهي التزامها تجاه تايوان وتُخفف معارضتها للسياسات الصينية الصارمة لتجنب الصراع بكل بساطة، وستحاول واشنطن بهذه الطريقة أن تحصد منفعة واضحة: تخفيض احتمال اندلاع الأزمات أو خوض الحرب بسبب مصالح من الدرجة الثانية أو الثالثة، لكن لن يتوقف نجاح تخفيض التكاليف على تراجع نطاق الأهداف الصينية أو اتفاق الصين والولايات المتحدة على الأهداف المنتظرة من هذه التنازلات.

ما تفاصيل هذه السياسة عملياً؟ من المتوقع أن تعلن الولايات المتحدة موقفها بعد تعديله، مما يُمهّد لتحديد الركيزة المطلوبة لتخفيف الضغوط التي تمارسها النُخَب الناشطة في أوساط السياسة الخارجية والرأي العام لحث واشنطن على التدخل في حال هاجمت الصين تايوان، كذلك يجب أن توضح الولايات المتحدة أن إقدام الصين على استعمال القوة لغزو تايوان ينتهك المعايير الدولية، حتى أنها تستطيع متابعة بيع الأسلحة إلى تايوان لتصعيب مسار الغزو الصيني، لكن تخفيض التكاليف لا يعني بالضرورة تراجع ميزانية الدفاع، بل تستطيع واشنطن أن تزيد الإنفاق للتمسك بقدرتها على الدفاع عن اليابان وكوريا الجنوبية أو تقويتها، وستكون هذه الاستثمارات كفيلة بتوجيه رسالة واضحة إلى الصين وحلفاء واشنطن: تُصِرّ الولايات المتحدة على حماية الالتزامات التي تتمسك بها.

خيارات صعبة

في ظل الاستراتيجية الراهنة للحفاظ على الالتزامات الأميركية في شرق آسيا، يبقى احتمال اندلاع الحرب مع الصين صغيراً (ولو أنه يتصاعد مع مرور الوقت)، لكن يجب أن يتعامل المعنيون بجدّية مع الأحداث غير المتوقعة لأنها قد تترافق مع عواقب هائلة، وستكون تكاليف أي حرب أميركية صينية ضخمة أو حتى كارثية إذا اتخذت طابعاً نووياً، ومع ذلك لا يبدي صانعو السياسة اهتماماً كبيراً بتقليص الالتزامات التي تزيد فرص اندلاع هذا النوع من الحروب.

قد لا يكون النقاش حول تخفيض التكاليف كافياً اليوم لأنه يصطدم بالنظرة التي تحملها الولايات المتحدة عن نفسها باعتبارها قوة عظمى ومؤثرة في العالم، فبنظر المعسكر الذي يعتبر الولايات المتحدة الفائزة في الحرب الباردة، وزعيمة النظام الدولي الليبرالي ومؤسِّسته، وحامية العوامل التي تستحق الحماية، تُعتبر مقاربة تخفيض التكاليف مريعة بكل بساطة. إنها ردة فعل خطيرة، وقد يتحول هذا الإصرار على هوية معينة إلى عائق أمام مراجعة السياسة المعتمدة، مما يدفع الولايات المتحدة إلى الحفاظ على الوضع الراهن مع أن مصالحها المادية تشير إلى ضرورة اتخاذ اتجاه معاكس، يجب ألا يكون تنامي النفوذ الصيني سبباً لتغيير القيم الأميركية، بما في ذلك احترام الديمقراطيات، لكن يُفترض أن يدفعها هذا الوضع إلى تحديث صورتها الذاتية وتقبّل خسارتها لجزءٍ من مكانتها السابقة.

يبدو أن معظم المراقبين مقتنعون بأن الولايات المتحدة تطبّق سياسة حذرة: في النهاية، تهدف هذه السياسة برأيهم إلى الحفاظ على الالتزامات القائمة، لكن يسهل أن تتبنى أي قوة مُهدَّدة ومُصمِّمة على التمسك بالوضع الراهن سلوكيات محفوفة بالمخاطر، فهذا ما تفعله الولايات المتحدة اليوم، ومن الواضح أن المسؤولين الأميركيين يتقبلون مخاطر مفرطة، حتى لو لم يعترفوا بذلك، فيتمسكون بالالتزامات القديمة في ظل تبدّل ميزان القوى في منطقة شرق آسيا. يُفترض أن تُلقى أعباء متابعة السياسة الراهنة على مؤيدي هذه المقاربة، ويجب أن يعترف هذا المعسكر بالمخاطر المطروحة ويوضح مبررات الاستراتيجية التي يدعمها، ومن دون خوض هذا النقاش، ستُصِرّ الولايات المتحدة على التمسك بالتزاماتها في المنطقة تلقائياً، مع أن الظروف القائمة منذ فترة تفرض عليها أن تغيّر مسارها.

تشارلز غلاسير – فورين أفيرز