ولما كانت الليلة التسعون بعد الستمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن عزيز طلب من ابنة عمه عزيزة المساعدة، فقالت له: على عيني ورأسي، لكن إن سمعت كلامي وأطعت أمري قضيت حاجتك، فقلت لها: إني أسمع كلامك، وأطيع أمرك، فقالت: إذا كان وقت الرواح أقول لك، ثم وضعتني على الفراش حتى غلبني النعاس واستغرقت في النوم، فأخذت مروحة وجلست عند رأسي تروّح على وجهي إلى آخر النهار، ثم نبهتني، فلما انتبهت وجدتها عند رأسي وفي يدها المروحة وهي تبكي ودموعها قد بلّت ثيابها، فلما رأتني استيقظت مسحت دموعها، وجاءت بشيء من الأكل فامتنعت منه، فقالت لي: أما قلت لك اسمع منّي وكُل، فأكلت ولم أخالفها، وصارت تضع الأكل في فمي وأنا أمضغ حتى امتلأت، ثم أسقتني نقيع عناب السكر، ثم غسلت يديّ ونشفّتها بمحرمة، ورشت عليّ ماء الورد وجلست معها وأنا في عافية.

Ad

الوصية

فلما أظلم الليل ألبستني ثيابي، وقالت: يا ابن عمي اسهر جميع الليل ولا تنم، فإنها ما تأتيك في هذه الليلة إلا في آخر الليل، وإن شاء الله تجتمع بها في هذه الليلة، ولكن لا تنسَ وصيتي، ثم بكت فأوجعني قلبي عليها من كثرة بكائها، وقلت لها: ما الوصية التي وعدتني بها؟ فقالت لي: إذا انصرفت من عندها فأنشدها البيت المقدّم ذكره، وهو:

ألا أيها العشاق بالـلـه خـبـروا

إذا اشتد عشق بالفتى، كيف يصنع؟

ظهور المحبوبة

ثم خرجت من عندها وأنا فرحان، ومضيت إلى البستان، وطلعت المقعد وأنا شبعان، فجلست وسهرت إلى ربع الليل، ثم طال الليل عليّ حتى كأنه سنة، فمكثت ساهراً، حتى مضى ثلاثة أرباع الليلة وصاحت الديوك، فاشتد عندي الجوع من السهر، فقمت إلى السفرة وأكلت حتى اكتفيت، فثقُل رأسي وأردت أن أنام وإذا بضجة على بُعد، فنهضت وغسلت يدي وفمي، ونبهت نفسي فما كان إلا قليل وإذا بها أتت ومعها عشر من الجواري، وهي بينهن كأنها البدر بين الكواكب، وعليها حلّة من الأطلس الأخضر مزركشة بالذهب الأحمر، وهي كما قال الشاعر:

تتيه على العشاق في حُلل خضـر

مفككة الأزرار محلولة الشعـر

فقلت لها: ما الاسم؟ قالت: أنا التـي

كويتُ قلوب العاشقين على الجمر

شكوت لها ما أقاسي من الهـوى

فقالت إلى صخر شكوت ولم تدر

فقلت لها إن كان قلبك صـخـرة

فقد أنبع الله الزلالَ من الصخـر

فلما رأتني ضحكت، وقالت: كيف انتبهت ولم يغلب عليك النوم، وحيث سهرت الليل علمت أنك عاشق، لأنّ من شيم العشاق سهر الليل في مكابدة الأشواق، ودخلت في غيبوبة، فلما أصبح الصباح أردت الانصراف وإذا بها أمسكتني وقالت لي: قف حتى أخبرك بشيء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

القماشة الملونة

وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد الستمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك قالت: قف حتى أخبرك بشيء وأوصيك وصية، فوقفت فحلّت منديلاً وأخرجت هذه الخرقة، ونشرتها قدامي فوجدت فيها صورة غزال على هذا المثال، فتعجبت منها غاية العجب، فأخذته من عندها وتواعدت وإياها أن أسعى إليها في كل ليلة بذلك البستان، ثم انصرفت من عندها وأنا فرحان، ومن فرحي نسيت الشعر الذي أوصتني به بنت عمي، وحين أعطتني الخرقة التي فيها صورة الغزال، قالت لي: هذا عمل أختي، فقلت لها: وما اسم أختك؟ قالت: اسمها نور الهدى، فاحتفظ بهذه الخرقة، ثم ودّعتها وانصرفت وأنا فرحان ومشيت إلى أن دخلت على ابنة عمي، فوجدتها راقدة، فلمّا رأتني قامت ودموعها تتساقط، ثم أقبلت عليّ، وقالت: هل فعلت ما أوصيتك به من إنشاد بيت الشعر؟ فقلت لها: إني نسيته، وما شغلني عنه إلا صورة هذا الغزال ورميت الخرقة قدّامها، فقامت وقعدت ولم تُطق الصبر، وأفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:

يا طالباً للفراق مهـلاً

فلا يغرّنك العـنـــــاق

مهلاً فطبع الـزمـان

وآخر الصحبة الفراق

فلما فرغت من شعرها، قالت: يا ابن عمي هب لي هذه الخرقة فوهبتها لها فأخذتها ونشرتها ورأت ما فيها، فلما جاء وقت ذهابي، قالت ابنة عمي: إذهب مصحوباً بالسلامة ولكن إذا انصرفت من عندها فأنشد بيت الشعر الذي أخبرتك به، فقلت لها: أعيديه لي فأعادته ثم مضيت إلى البستان ودخلت المقعد، فوجدت الصبية في انتظاري، فلما رأتني أنشدتها بيت الشعر وهو:

ألا أيّها العشاق بالله خـبـروا

إذا اشتد عشق الفتى، كيف يصنع؟

فلما سمعته امتلات عيناها بالدموع، وأنشدت:

يداري هواه، ثـم يكـتـم سـرّه

ويصبر في كل الأمور ويخضع

فحفظته، وفرحت بقضاء حاجة ابنة عمي، وعندما عدت وجدتها راقدة، وأمي عند رأسها تبكي على حالها، فلما دخلت عليها قالت لي أمي: تباً لك من ابن عم، كيف تترك بنت عمك على استواء ولا تسأل عن مرضها؟ فلما رأتني ابنة عمي، رفعت رأسها وقعدت، وقالت لي: يا عزيز، هل أنشدتها البيت الذي أخبرتك به؟ فقلت: نعم فلما سمعته بكت، وأنشدتني بيتاً آخر، وحفظته، فقالت بنت عمي: أسمعني إياه ثم بكت بكاء شديداً، وأنشدت هذا البيت:

لقد حاول الصبر الجميل ولم يجد

له غير قلب في الصبابة يجزع

ثم قالت ابنة عمي: إذا ذهبت إليها على عادتك، فأنشدها هذا البيت الذي سمعته فقلت لها: سمعاً وطاعة، ثم ذهبت إليها في البستان على العادة، ولما أردت الانصراف أنشدتها ذلك البيت مرة أخرى، فلما سمعته سالت مدامعها في المحاجر، وأنشدت قول الشاعر:

فإن لم يجد صبراً لكتمـان سـره

فليس له عندي سوى الموت أنفع

فحفظته، وتوجهت إلى البيت، فلما دخلت على ابنة عمي وجدتها ملقاة مغشياً عليها وأمي جالسة عند رأسها، فلما سمعت كلامي فتحت عينيها، وقالت: يا عزيز، هل أنشدتها بيت الشعر؟ قلت لها: نعم ولما سمعته بكت وأنشدتني هذا البيت، فلما سمعته بنت عمي غشي عليها ثانياً، فلما أفاقت أنشدت هذا البيت:

سمعنا أطعنا ثم متـنـا فـبـلّـغـوا

سلامي إلى كل من كان للوصل يمنع

وفاة عزيزة

ثم لما أقبل الليل مضيت إلى البستان على عادتي، فوجدت الصبية في انتظاري فجلسنا وأكلنا وشربنا، فلما أردت الانصراف أنشدتها ما قالته ابنة عمي، فلما سمعت ذلك صرخت صرخة عظيمة، وقالت: والله إن قائلة هذا الشعر قد ماتت، ثم بكت، وقالت: ويلك، ما تقرب لك قائلة هذا الشعر؟ قلت لها: إنها ابنة عمي، قالت: كذبت والله، لو كانت ابنة عمك لكان عندك لها من المحبة مثل ما عندها لك، فأنت الذي قتلتها، قتلك الله كما قتلتها، والله لو أخبرتني أن لك ابنة عم ما قرّبتك منّي، فقلت لها: ابنة عمي كانت تفسر لي الإشارات التي كنت تشيرين بها إليّ، وهي التي علّمتني ما أفعل معك وما وصلت إليك إلا بحُسن تدبيرها، فقالت: وهل عرفت بنا؟ قلت: نعم، قالت: حسّرك الله على شبابك كما حسّرتها على شبابها، ثم قالت لي: رُح انظرها، فذهبت وخاطري متشوّش، وما زلت ماشياً حتى وصلت إلى زقاقنا، فسمعت عياطاً، فسألت عنه فقيل: إن عزيزة وجدناها خلف الباب ميتة، ثم دخلت الدار فلما رأتني أمي قالت: إن خطيئتها في عنقك لا سامحك الله من دمها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

سرّ عزيزة

وفي الليلة الثانية والتسعين بعد الستمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: ثم دخلت الدار فلما رأتني أمي قالت: تباً لك من ابن عم، ثم إن أبي جاء وجهّزناها وشيعنا جنازتها ودفنّاها، وعملنا على قبرها الختمات ومكثنا على القبر ثلاثة أيام، ثم رجعت إلى البيت وأنا حزين عليها، فأقبلت عليّ أمي، وقالت لي: إن قصدي أن أعرف ما كنت تفعله معها حتى فقعت مرارتها، وإني يا ولدي كنت أسألها في كل الأوقات عن سبب مرضها، فلم تخبرني به ولم تطلعني عليه، فبالله عليك أن تخبرني بالذي كنت تصنعه معها حتى ماتت، فقلت: ما عملت شيئاً، فقالت: الله يقتص لها منك، فإنها ما ذكرت شيئاً، بل كتمت أمرها حتى ماتت وهي راضية، ولما ماتت كنت عندها ففتحت عينيها، وقالت لي: يا امرأة عمي جعل الله ولدك في حلّ من دمي، ولا آخذه بما فعل معي، وإنما نقلني إلى الله من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية.

فقلت لها: يا ابنتي سلامتك وسلامة شبابك، وصرت أسألها عن سبب مرضها فما تكلمت، ثم تبسمت وقالت: يا امرأة عمي إذا أراد ابنك أن يذهب إلى الموضع الذي عادته الذهاب إليه فقولي له يقول هاتين الكلمتين عند انصرافه منه: الوفاء مليح والغدر قبيح، وهذه شفقة منّي عليه، لأكون شفيقة عليه في حياتي وبعد مماتي، ثم أعطتني لك حاجة، وحلّفتني ألّا أعطيها لك حتى أراك تبكي عليها وتنوح، الحاجة عندي، فإذا رأيتك على الصفة التي ذكرتها أعطيتك إياها، فقلت لها: أريني إياها، فما رضيت، ثم إني اشتغلت بلذّاتي ولم أتذكر موت ابنة عمي، لأني كنت طائش العقل، وكنت أودّ في نفسي أن أكون طول ليلي ونهاري عند محبوبتي، وما صدقت أن الليل أقبل حتى مضيت إلى البستان، فوجدت الصبية جالسة على مقالي النار من كثرة الانتظار، فما صدقت أنها رأتني فبادرت إليّ وتعلّقت برقبتي، وسألتني عن بنت عمي، فقلت لها: إنها ماتت، وعملنا لها الذكر والختمات، ومضى لها أربع ليال وهذه الخامسة.

فلما سمعت ذلك صاحت وبكت، وقالت: أما قلت لك إنك قتلتها، ولو أعلمتني بها قبل موتها لكنت كافأتها على ما فعلت معي من المعروف، فإنها خدمتني وأوصلتك إليّ، ولولاها ما اجتمعت بك، وأنا خائفة عليك أن تقع في مصيبة بسبب رزيّتها، فقلت لها: إنها قد جعلتني في حلّ قبل موتها، ثم ذكرت لها ما أخبرتني به أمي، فقالت: بالله عليك إذا ذهبت إلى أمك فاعرف الحاجة التي عندها، فقلت لها: إن أمي قالت لي: إن ابنة عمك قبل أن تموت أوصتني وقالت لي: إذا أراد ابنك أن يذهب إلى الموضع الذي عادته الذهاب إليه فقولي له هاتين الكلمتين: الوفاء مليح والغدر قبيح.

خداع الحبيبة

فلما سمعت الصبية ذلك قالت: رحمة الله عليها، فإنها خلّصتك منّي، وقد كنت أضمرت على ضررك، فأنا لا أضرك ولا أشوّش عليك، فتعجبت من ذلك، وقلت لها: وما كنت تريدين قبل أن تفعلينه معي وقد صار بيني وبينك مودة؟ فقالت لي: أنت مولع بي، لكنك صغير السن وقلبك خال من الخداع، فأنت لا تعرف مكرنا ولا خداعنا، ولو كانت في قيد الحياة لكانت مُعينة لك، فإنها سبب سلامتك حتى أنجتك من الهلكة، والآن أوصيك ألا تتكلم مع واحدة ولا تخاطب واحدة من أمثالنا، لا صغيرة ولا كبيرة، فإياك ثم إياك ذلك، لأنك غير عارف بخداع النساء ولا مكرهن، والتي تفسر لك الإشارات قد ماتت، وإني أخاف عليك أن تقع في رزيّة فلا تجد من يخلّصك منها بعد موت بنت عمك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

ندم

وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الستمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: ثم إن الصبية قالت: فواحسرتاه على بنت عمك، وليتني علمت بها قبل موتها حتى أكافئها على ما فعلت معي من المعروف، رحمة الله تعالى عليها، فإنها كتمت سرها ولم تبُح بما عندها، ولولاها ما كنت تصل إليّ أبداً، وإني أشتهي عليك أمراً، فقلت: ما هو؟ قالت: أن توصلني إلى قبرها حتى أزورها في القبر الذي هي فيه وأكتب عليه أبياتاً، فقلت لها: في غد إن شاء الله تعالى، وهي بعد كل ساعة تقول لي: ليتك أخبرتني بابنة عمك قبل موتها، فقلت لها: ما معنى هاتين الكلمتين اللتين قالتهما، وهما الوفاء مليح والغدر قبيح؟ فلم تجبني.

صدقات

فلما أصبح الصباح قامت وأخذت كيساً فيه دنانير، وقالت لي: قم وأرني قبرها حتى أزوره وأكتب عليه أبياتاً، وأعمل عليه قبّة، وأترحم عليها وأصرف هذه الدنانير صدقة على روحها، فقلت لها: سمعاً وطاعة، ثم مشيت قدّامها ومشت خلفي، وصارت تتصدق وهي ماشية في الطريق، وكلما تصدقت صدقة تقول: هذه الصدقة على روح عزيزة التي كتمت سرها حتى شربت كأس مناياها ولم تبُح بسر هواها، ولم تزل تتصدق من الكيس وتقول: على روح عزيزة، حتى وصلنا القبر ونفد ما في الكيس، فلما عاينت القبر رمت روحها عليه وبكت بكاء شديداً، ثم إنها أخرجت بكاراً من الفولاذ ومطرقة لطيفة وخطت بالبيكار على الحجر الذي على رأس القبر خطاً لطيفاً، ورسمت هذه الأبيات:

مرت بقبر دارس وسـط روضة

عليه من النعمان سبع شـقـائق

فقلت: لمن ذا القبر؟ جاوبني الثرى

تأدب، فهذا القبر برزخ عـاشـق

فقلت رعاك الله يا ميّت الـهـوى

وأسكنك الفردوس أعلى الشواهق

مساكين أهل العشق حتى قبورهم

عليها تراب الذلّ بين الـخـلائق

فإن أستطع زرعاً زرعتك روضة

وأسقيتها من دمعي المتـدافـق

ثم بكت بكاء شديداً، وقامت وقمت معها وتوجهنا إلى البستان، فقالت لي: سألتك بالله ألا تنقطع عنّي أبداً، فقلت سمعاً وطاعة، ثم إني صرت أتردد عليها وتكرمني وتسألني عن الكلمتين اللتين قالتهما ابنة عمي، وعند رأس السنة دخلت الحمام وأصلحت شأني ولبست بدلة فاخرة من الحمام، وشممت روائح قماشي المضمخ بأنواع الطيب وأنا خالي القلب من غدرات الزمان وطواق الحدثان، فلما جاء وقت العشاء اشتاقت نفسي إلى الذهاب إليها، ودخلت زقاقا يقال له زقاق النقيب، فبينما أنا ماش في ذلك الزقاق، إذا بعجوز ماشية وفي إحدى يديها شمعة مضيئة، وفي يدها الأخرى كتاب ملفوف. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

زقاق النقيب

وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الستمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب الذي اسمه عزيز قال لتاج الملوك: فلما دخلت الزقاق الذي يقال له زقاق النقيب مشيت فيه، فبينما أنا ماش في ذلك الزقاق، إذا بعجوز ماشية وفي إحدى يديها شمعة مضيئة وفي يدها الأخرى كتاب ملفوف، فتقدمت إليها وهي باكية العين وتنشد هذين البيتين:

له در مباشري لقدومكـم

فلقد أتى بلطائف المسموع

لو كان يقنع بالخليع وهبته

قلباً تمزق ساعة التـوديـــــــع

فلما رأتني، قالت لي: يا ولدي هل تعرف أن تقرأ؟ فقلت لها: نعم يا خالتي العجوز، فقالت لي: خذ هذا الكتاب واقرأه وناولتني إياه، فأخذته منها وفتحته وقرأت مضمونه، إنه كتاب من عند الغياب بالسلام على الأحباب، فلما سمعته فرحت واستبشرت ودعت لي، وقالت: فرّج الله همّك كما فرّجت همي، وقالت: يا مولاي، الله تعالى يهنيك بشبابك ولا يفضحك، أترجاك أن تمشي معي خطوات إلى ذلك الباب، لأني إن أخبرتهم بما أسمعتني إياه من قراءة الكتاب فلم يصدقوني، فامش معي خطوتين واقرأ لهم الكتاب من خلف الباب، واقبل دعائي لك، فقلت لها: وما قصة هذا الكتاب؟ فقالت لي: يا ولدي هذا الكتاب جاء من عند ولدي وهو غائب عنّي مدة عشر سنين، فإنه سافر بمتجر ومكث في الغربة تلك المدة، فقطعنا الرجاء منه وظننا أنه مات، ثم وصل إلينا منه هذا الكتاب، وله أخت تبكي عليه في مدة غيابه آناء الليل وأطراف النهار.

فقلت لها: إنه طيب بخير، فلم تصدقني، وقالت لي: لا بدّ أن تأتيني بمن يقرأ هذا الكتاب فيخبرني حتى يطمئن قلبي ويطيب خاطري، وأنت تعلم يا ولدي أن المحب مولع بسوء الظن، فأنعم عليّ بقراءة هذا الكتاب وأنت واقف خلف الستارة، وأخته تسمع من داخل الباب لأجل أن يحصل لك ثواب، من قضى لمسلم حاجة في الدنيا نفّس عنه كربة من كرب يوم القيامة، وأنا قصدتك فلا تخيبني، فقلت لها: سمعاً وطاعة.

وتقدمت فمشت قدامي، ومشيت خلفها قليلاً حتى وصلت إلى باب دار عظيمة، وذلك الباب مصفح بالنحاس الأحمر، فوقفت خلف الباب وصاحت العجوز بالعجمية، فما أشعر إلا وصبية قد أقبلت بخفة ونشاط، فلما رأتني قالت بلسان فصيح عذب ما سمعت أحلى منه: يا أمي... أهذا الذي جاء يقرأ الكتاب؟ فقالت لها: نعم فمدّت يدها إليّ بالكتاب، وكان بينها وبين الباب نحو نصف قصبة، فمددت يدي لأتناول الكتاب وأدخلت رأسي وأكتافي من الباب لأقرب، فما أدري إلا والعجوز قد وضعت رأسها في ظهري ويدي ماسكة الباب، فالتفتُّ فرأيت نفسي في وسط الدار من داخل الدهليز، ودخلت العجوز أسرع من البرق الخاطف، ولم يكن لها شغل إلّا قفل الباب.

الجريدة - القاهرة