منذ سنوات بعيدة، جاءت «أم صابر» مع زوجها إلى القاهرة، وأقاما في أحد الأحياء الشعبية، وبمرور الوقت تآلفت تلك الأسرة الريفية مع طبيعة الحياة في العاصمة، واعتاد أهل المنطقة رؤية رجل وزوجته ومعهما طفل صغير في أثناء خروجهم من المنزل صباحاً وعودتهم في المساء، ويتكرر المشهد يومياً من دون أن يعرفوا وجهتهم، لكن بعض الفضوليين تقصوا الأمر، وعرفوا أن جارهم يفترش بضاعته من الخضراوات فوق رصيف الميدان، وبجواره تجلس زوجته حاملة طفلها.

وعندما تغرب الشمس، يلملم الرجل بضاعته في جوال، ويحملها على كتفه، ويعود مع زوجته وطفله إلى مسكنهم، ومضت حياتهم على تلك الوتيرة، من دون أدنى تغيُّر، وكان الزوجان قانعين بحصيلة عملهما اليومي، ويتحملان تحولات الفصول بين البرد القارس والطقس شديد الحرارة، وأحياناً يتعرضان لبعض المضايقات من الزبائن، لكنهما تحملا قسوة الظروف، وكانا يدخران بعض النقود، لتحقيق حلمهما باستئجار محل لبيع الخضراوات، ويودعان الجلوس فوق الرصيف.

Ad

وانطوت صفحات حياتهما قبل قدومهما إلى القاهرة، واعتادا العيش في الزحام والضوضاء، وكأنهما بلا أهل أو بلد، وكان يحلو لبعض الزبائن أن يسأل «أبو صابر» عن بلده، فيجيب ضاحكاً: «أنا من مصر»، وحين يلحون في سؤالهم، يحتد قائلاً: «اشتري ما تريد أو انصرف”.

وظلت أم صابر تساند زوجها بقدر ما تستطيع، وتعاونه في عمله، وحين تعود في المساء لا تخلد للراحة، بل تتابع مهامها المنزلية، لكن الشيء الذي كان يعكر صفو حياتها، أن طفلها الصغير لا يكف عن السعال، وذهبت به إلى الطبيب، فقال لها إن الطفل مصاب بسعالٍ شديد، وكتب «روشتة» ببعض الأدوية، وطلب منها أن تعتني بغذائه، ولا تعرضه للبرد أو الحر الشديد، وفكرت أنه من الصعب تركه بمفرده في المنزل، واضطرت أن تبقى معه لرعايته حتى تحسنت حالته، لكن بين حين وآخر كانت تداهمه نوبات السعال مجدداً.

وذات يوم تحقق الحلم، واستطاع أبو صابر أن يستأجر محلاً صغيراً في المنطقة، وبدأ يشعر بنوع من الاستقرار، لا سيما أن زوجته ظلت تعاونه في عمله، وتظهر معدنها الأصيل في تحمل الصعاب، لكن أسباب قدومها إلى القاهرة ظلت غامضة، وكانت علاقتهم بجيرانهم مقتصرة على المودة وتبادل التحية، من دون أن تسمح بإفشاء الأسرار، وطوال فترة إقامتهم في مسكنهم، لا يسمع أحد صوت شجار أو ضوضاء، باستثناء سعال الطفل بين حين وآخر.

كانت القاهرة بالنسبة إلى الزوجين مجرد مكان لكسب الرزق، ولا تثير في داخلهما الرغبة في التنزه ومشاهدة معالمها، فمنذ وطأت أقدامها رصيف محطة القطار، واستقرا في الحي الشعبي، واستأجرا شقة صغيرة في منزل قديم، توجه أبو صابر إلى أحد وكالات بيع الخضراوات واتفق على حصة يومية ليبيعها فوق الرصيف، وحين فتح محله زادت صحته، وراجت تجارته، بينما كان يقلقه مرض طفله الصغير، حتى أتى يوم حزين فقد فيه ابنه الوحيد، وغرق مع زوجته في صمتٍ أليم، وحاول الجيران مواساتها بشتى الطرق من دون فائدة.

وتحوَّل فقدهما طفلهما الوحيد إلى جرحٍ لا يندمل، وعجز الأب عن مواصلة عمله، وأغلق المحل لفترة طويلة، وطرق بابه بعض جيرانه، وأقنعوه أن يخرج من عزلته، ويكمل مسيرة حياته، لكن الصدمة أعجزته عن الحركة، وبات غير قادر على بذل أي جهد، وبقي على هذه الحال، حتى استيقظ الجيران ذات يوم على صرخة مدوية، وأدركوا أن مصاباً آخر قد حل بتلك الأسرة البائسة.

الأحبة الغائبون

غرقت الأرملة في أحزانها، لكنها طوت ألمها، وقررت أن تفتح المحل مرة ثانية، وإذا كان قدرها أن تبقى في الدنيا وحيدة، فإنها آجلاً أم عاجلاً ستلحق بزوجها وابنها الغائبين، وعليها أن تتصدق على روحهما حتى تلحق بهما في الجنة، وفي ذلك الوقت تعاطف معها جيرانها، وذات يوم قالت لها إحدى جاراتها: «لماذا لا تعودين للعيش مع أهلك» فارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة، وقالت باقتضاب: «أنتم أهلي”.

بدت حكاية أم صابر مليئة بالغموض، ولا يعرف جيرانها من أين جاءت هي وزوجها، وتارة يقول البعض إنهما من أقاصي الصعيد (جنوب مصر)، ويرجح فريق آخر أنهم من الوجه البحري، بينما كانت لديهما إجابة مبهمة: «أصلنا من الصعيد وانتقلنا مع أهلنا إلى وجه بحري»، وبمرور الوقت كف الجيران عن ملاحقتهما بالأسئلة، فلديهما أوراق ثبوتية كعقد الزواج وبطاقات الهوية، وهذا كان باعثاً على الطمأنينة، فليس وراءهم جريمة أو شيء مريب.

واستغرقت الأرملة في عملها، وعاشت على ذكرى زوجها وطفلها الراحلين، ورغم رواج تجارتها، فإنها لم تغادر المسكن الذي يحمل أصداء ذكرياتها مع الغائبين، وهناك تجلس صامتة بالساعات، وتطاردها خيالات الأيام الفائتة، وترى في أحلامها طفلها يلهو أمامها، والغريب أنها ظلت طيلة إقامتها في القاهرة، لا يزورها أحد من أقاربها، أو تسافر لرؤيتهم، وكأنها هبطت على هذا الحي الشعبي من كوكب آخر.

اعتادت أم صابر أن تذهب إلى الوكالة للاتفاق على حصة مشترياتها، وتمضي إلى المحل، وتنتظر وصول البضاعة، وذات يوم اقترح عليها سائق الشاحنة أن تشتري هاتفاً جوالاً لتقضي به مصالحها، وتوفر به الوقت، وحينها اشترت الهاتف، ووجدت صعوبة في استخدامه، ولجأت إلى إحدى جاراتها لتعلمها كيفية تشغيله، وبعدها كانت بين حين وآخر تهاتف صاحب الوكالة، وتطلب منه أن يرسل الحصة المتفق عليها.

ومضت السنوات بالسيدة المثابرة، واستطاعت أن تختزن أحزانها في أعماق نفسها، وتواصل تجارتها حتى اشتهرت في الحي بكُنية «المعلمة أم صابر»، وباتت مثلاً وقدوة لقريناتها من النساء في سوق العمل، وتراكمت عليها خبرات الحياة، من دون أن تدري ما تخبئه لها الأيام المقبلة، وأنها في مرمى شخص متربص، ويتابع تحركاتها منذ أن تفتح المحل، وحتى تعود إلى منزلها في المساء.

فكرة شيطانية

في ذلك الوقت اتسعت تجارة «المعلمة أم صابر» وتقدم بها العمر، وأرادت أن يعاونها أحد في العمل، وعلقت لافتة على باب المحل، وتقدم إليها شاب يطلب الوظيفة، فقالت له إنها ستختبره لعدة أيام، حتى تتأكد من أنه يقوم بعمله على أكمل وجه، وحين أظهر «سالم» أمانته وحسن معاملته للزبائن، قالت له: «لو أن ابني صابر كان على قيد الحياة، لكان في مثل عمرك، وسأعتبرك مثل ابني، فلا تخيب ظني فيك»، فأطرق الشاب في حزن، وقال لها: «وأنا أيضاً أمي ماتت بعد ولادتي بأعوام قليلة، وقد عوضني الله بك»، فاغرورقت عيناها بالدموع، وتمالكت نفسها، وطلبت منه أن يعود إلى عمله.

كان سالم يسكن في الشارع المجاور لمحل «أم صابر» واعتاد أن يجلس في المقهى القريب من المحل، ويراها كل يوم تتحدث في الهاتف الجوال، وترتدي أساور ذهبية، ولا يدري كيف راودته تلك الفكرة الشيطانية ليتقرب منها، ووجد الفرصة سانحة، عندما قرأ اللافتة، وقبل أن يلقي عليها شباكه، قطعت عليه الطريق بحديثها عن ابنها المتوفى، فقرر أن يبدل خطته، لكنه فوجئ أنها سيدة متمرسة، وذات شخصية قوية، وتمتلك عقلية تجارية، ولا يمكن أن ينال منها سوى أجره عن عمله، وأعماه الطمع عن الرضا بعمل شريف، وقرر أن يستولي على أموالها، حتى لو استدعى الأمر أن يقتلها!

سقوط الجاني

توجهت أصابع الاتهام إلى «سالم» وبعد هروبه ظل المحل مغلقاً لعدة أيام، ونجح رجال المباحث في كشف ملابسات الواقعة بعدما تبين أن المجني عليها كانت تمتلك «هاتفاً جوالاً» وتحتفظ في منزلها بأموالها وبعض المصوغات الذهبية، وعلى الفور أخطرت شركة الاتصالات المعنية بتتبع هاتفها، وتبين أنه بحوزة طالب يمت بصلة قرابة للمتهم، وجرى ضبطه واعترف أن «سالم» قابله بالمصادفة، وعرض عليه شراء الهاتف، وأنه لم يعلم أنه مسروق، وأنه دفع له نصف ثمنه، وقال له إنه سيتصل به ليدفع الجزء المتبقي.

وطالبت النيابة بسرعة ضبط بائع الهاتف بعدما أرشد عنه المشتري، واستطاع رجال المباحث ضبطه، وتبين أنه المتهم بقتل المجني عليها وسرق هاتفها ومصوغاتها الذهبية، ثم باع المشغولات الذهبية لصائغ في منطقة بعيدة عن مسرح الجريمة، وتمكنوا من استعادة المتعلقات والإفراج عن حائزيها بعد التأكد من عدم وجود شبهة جنائية نحوهم.

واستمعت النيابة إلى أقوال الشهود، وأكدوا أن المجني عليها كانت تقيم بمفردها في الشقة، ولا يتردد عليها أحد من أقاربها، وأنها سكنت في الحي الشعبي مع زوجها وطفلها منذ سنوات طويلة، وبعد وفاتهما عاشت وحيدة، ورفضت الزواج مرة أخرى، وكانت سيرتها حسنة، وتتمتع بقوة الشخصية، وتحملت مسؤولية العمل بمفردها حتى تقدم بها العمر، ووافقت على توظيف هذا الشاب العاطل الذي اختفى بعد مقتلها، ولم يظهر حتى تمكنت الشرطة من القبض عليه.

وبحصار المتهم اعترف بكافة تفاصيل الواقعة، وقال إنه كان يشاهد المجني عليها في أثناء تواجدها بمحلها، ولفت نظره ارتداؤها أساور ذهبية، ومنذ تلك اللحظة لعب الشيطان برأسه، ورتب خطة لسرقتها، ووجد الفرصة سانحة أمامه عندما علقت لافتة تطلب بائعاً للعمل، ومن دون تردد غادر المقهى المجاور للمحل، وتوجه إليها طالباً الوظيفة، لأنه بحاجة للعمل لظروف أسرية خاصة، فوافقت السيدة العجوز، وتعاملت معه كأنه ابناً لها، لا سيما أنها فقدت ابنها الوحيد وزوجها منذ سنوات طويلة.

وتتابعت اعترافات المتهم: «سيطرت فكرة سرقتها على عقلي، وكنت حين أنتهي من عملي، وأعود إلى البيت، أجلس بالساعات لأفكر في خطة من دون أن تلاحقني الشبهات، وخلال تلك الفترة، عرفت أنها بعد إغلاق المحل، تعود إلى منزلها، ولا تخرج إلا في صباح اليوم التالي، وذات ليلة جلستُ في المقهى حتى ساعة متأخرة، والفكرة الشيطانية تدور في رأسي، ومشيت كأني منوم مغناطيسياً، واستطعت دخول المنزل من دون أن يلاحطني أحد من الجيران، وصعدتُ الدرج إلى شقتها، وفتحت الباب بصعوبة، ووجدتها مستغرقة في النوم، وفتشت في كل مكان، حتى عثرت على بعض النقود والمصوغات في صندوق خشبي، لكنها أفاقت من نومها، وحاولت الصراخ، فضغطتُ على عنقها، وسددت لها عدة طعنات بالسكين، وحين تأكدت أنها فارقت الحياة أخذت هاتفها المحمول والمسروقات الأخرى، وهربت من المكان”.

واعترف المتهم أنه باع المصوغات الذهبية لمحل في منطقة بعيدة، وأكد صاحب المحل أنه لم يعلم بأن الذهب من جريمة سرقة لعدم اشتباهه في المتهم، فهو وجد شاباً يريد بيع مصوغات وأكد أنها تخص أمه كما أنه باعها له بمبلغ طبيعي وليس سعر زهيد.

وأدلى المتهم باعترافات تفصيلية حول الواقعة، حيث قال إنه يمر بضائقة مالية وخطط لقتل السيدة عقب ترصدها وأنه كسر الباب وتهجم عليها وسرق هاتفها المحمول ومصوغاتها الذهبية وأنه قابل قريبه الطالب مصادفة، وعرض عليه شراء الهاتف، وأخذ منه نصف الثمن المتفق عليه، من دون أن يدرك أمر التتبع الذي أفضى إلى سقوطه بعد ارتكاب جريمته بأيام قليلة.

وقررت النيابة طلب التحريات حول الواقعة، وتشريح جثة المجني عليها وإعداد تقرير حول الواقعة، والتصريح بالدفن عقب ذلك، وأمرت بحبس المتهم على ذمة القضية، لحين مثوله أمام القضاء.

هشام محمد