نحن بحاجة جادة وملحة وصادقة لإعادة قراءة أوراق الوطن وترتيبها، فقد أضاعنا وأضاع البلد معنا، حقاً، سلوك بعثرة الأوراق أو خلطها أو إهمالها أو تمزيقها وربما حرقها.

فهناك أخطاء وتراجعات كبيرة بحق الوطن، تكشفها قراءة أوراق الوطن، ارتكبتها أو ساهمت بها كل الأطراف، عن علم ودراية وإدراك، أو دون علم أو بلا قصد أو بسذاجة، وقد سُتِرَتْ حقائقها بمسلك غير حميد، تمثل بالمجاملة أحياناً، أو بالتغافل أحياناً، وبالتحالفات أحياناً ثالثة، أو بتفريط متعمد أحياناً أخرى.

Ad

وقد انعكس كل ذلك بشكل مرعب على المسار العام للوطن، ورغم أننا ندفع اليوم ثمن تلك الأخطاء والتراجعات، فإن هناك تجنباً واضحاً عن الخوض فيها وتناولها بشكل موضوعي ومحايد وصريح ومنطقي وبحس وطني مسؤول. وهو ما يشعرني بجسامة مسؤولية إثارة تلك الأخطاء والتراجعات دون تردد أو تأخير، حتى لا يستمر الوطن في دوامة اللاخروج والتقهقر.

ولعل تقليب صفحات النخب السياسية والمثقفة في الكويت، يكشف التراجع المريع الذي منيت به هذه النخب، بعد أن كانت تلعب دوراً ريادياً وقيادياً يماثل ما تقوم به التيارات والقوى السياسية، بل كانت تشكل رديفاً لترشيد العمل السياسي سواء الحكومي أو الشعبي، عبر النصح والمشاورة والنقد، بل والاعتراض بجرأة وأدب، سواء بالمجالس الخاصة أو العامة، إلا أن النخب للأسف صارت اليوم في غالبيتها العظمى إما مجرد واجهات أو وجاهات أو قناصة لفرص شخصية أو مرسال للتشكيك أو التثبيط في العمل الوطني أو شخصياته، أو سلبية ومنزوية في أحسن أحوالها، ومن ثم فقد تحوّلت النخب لنقطة ضعف بارزة في العمل الوطني.

فترى الشخصيات المرموقة ذات التاريخ الوطني المشهود وقد أصبح همها حضوراً إعلامياً أو حضوراً لدى صاحب القرار تنشد وجاهة تسيء لتاريخها، وأخرى تسعى بشكل مخجل لكسب منصب أو مركز لأحد أبنائها، مما ينال من مكانتها وموقعها الذي له حظوة لدى كل الأطراف.

والمحزن أن تجد منهم من تحول سلطوياً أكثر من السلطة، ويبادر لتبرير سوء الإدارة الحكومية والممارسات الخاطئة، حتى قبل أن يفهم الموضوع أو يسمع الرأي الآخر، بل المخيف فعلاً من صار منهم مراسلاً للتحريض ويلعب شخصية المشكك بكل المواقف الوطنية تكسباً لمزيد من الحظوة، بل واستمرار تمصلحه المالي أو التجاري، بدلاً من أن يكون وسيطاً للخير وتعزيز التوافق بين كل الشركاء بالوطن، فيكون رافداً يعلي من شأن الوطن بدلاً من أن يكون مثبطاً وثغرة في العمل الوطني.

ومن أسوأ ما يمارسه بعض النخب نشر ثقافة التخوين والتخويف والذعر، بل ومن أسوأ ما يمارسه بعض النخب احتكار الحق أو الحقيقة أو الوطنية، وكأنما أطراف العمل الوطني في نزاع أو حرب، وهم ليسوا كذلك، فتعدد الاجتهادات والاختلاف على أسلوب إدارة البلد ظواهر صحية، ترشد القرار وتقوي عضد الوطن، وهو الدور المرتقب للنخب بدلاً من نشر ثقافة التخوين والتخويف، خصوصاً أن ثوابت الوطن حسمت واستقرت ودونت بعقد اجتماعي قديم متجدد ومستمر، ولعل التمسك بخيار الممارسة البرلمانية القويمة، كما رسمها الدستور، بلا تفريط أو إفراط، وعلى أسس التوازن التي وصفتها المذكرة التفسيرية للدستور، هو مرجعيتنا لترشيد العمل البرلماني بدل التحري عليه. فلا يقبل من أولئك البعض من النخب دورهم المشبوه، ومنهم من يطرب لوجود حالة الشك والتخوين والتحريض، فهم -في هذه الحالة- يدورون في فلك الفاسدين، وإن لم يكونوا بالضرورة منهم.

وأخيراً هناك من انزوى وابتعد واتخذ موقفاً سلبياً، ولا يُقبل من أمثالهم ممن لديهم تاريخ وطني مرموق تحولهم لموقف المنزوي أو المتفرج، والوطن وكل أطرافه تحتاج إلى مشورتهم وعفويتهم وجرأتهم وقوتهم، فانزواؤهم وسلبيتهم مما يزيد ألم البلد ومعاناته.

تلك هي أوراق النخب السياسية والثقافية المبعثرة، ومنها ما فقد بسبب قلة الحرص على حفظها، وهو ما يستلزم إعادة ترتيبها، ومنع إضاعة المتبقي منها، حفظاً لمصلحة الوطن.

محمد المقاطع