مرت الثمانينيات على الماغوط قاسية جدا، فبعد وفاة شقيقته ووالده تلقى الشاعر أصعب الضربات وأقساها من خلال وفاة زوجته الشاعرة سنية صالح، بعد صراع طويل مع مرض السرطان، الذي تسبب سابقاً في وفاة والدة زوجته، وهي بنفس عمر زوجته. ومما يُذكر أن نفقة علاج زوجته كانت على حساب القصر الجمهوري السوري في مشفى بضواحي باريس، بعد أن أمضت عشرة أشهر في العلاج، قبل أن ترحل تاركة له ابنتين.

ويبقى للماغوط من سنية في هذا العالم سلافة وشام اللتين تربطه بهما علاقة أبوة حميمة، إذ يتحدث شقيقه عيسى في كتاب «الخوف والجوع» عن تلك العلاقة بابنتيه واصفا إياها بالقوية؛ فعمل على تربيتهما على أفكاره التي يكتبها شعرا، كما كان قلقا عليهما أن تتعرضا لما تعرض له من معاناة. ويقول عيسى: «كانت ابنته سلافة تقتني عصافير وتعتني بها أبلغ عناية، فإذا فرغت العصافير من تناول الطعام الذي يقدم لها، تنتقل إلى التغريد، هنا كان الماغوط يستمع ولا يحتمل، يطلب من سلافة أن تطلق عصافيرها من النافذة لتذهب إلى الآفاق البعيدة بدلا من أن تبقى سجينة أقفاصها، ويقول لها: كيف تتصورين أن أقبل بوجود عصافير محبوسة في منزلي، وأنا لا علم لي إلا الكتابة عن الحرية؟

Ad

تقول له سلافة، وهي خائفة منه على عصافيرها: هذه العصافير لا أمن لها إلا داخل هذه الأقفاص، فإذا أطلقتها فإنها لا تعيش ولا تعرف كيف توفر غذاءها أو ماءها... فيجيبها: إن الحرية أجمل. ولا يهمه ما يحدث للعصافير إذا غادرت إلى الحرية!». ويضيف عيسى الماغوط في رواية أخرى من كتابه أيضاً: «بعد أكثر من سبعين عاماً من الجوع والخوف، لا عطايا التكريمات والجوائز أشبعته، ولا حنوّ أهل الأمن عليه جعله آمنًا. وكان يهرع إلى المصرف لإيداع نقوده باسم ابنتيه خوفًا عليهما من الجوع، وكان يتذكر زكريا تامر عندما خاطب قطته وهو يصب لها مرق الفاصوليا على الأرض: لا تجوعي مثلنا يا بلهاء!».

العزلة

تابع الماغوط بعد كل ذلك الرحيل المفاجئ للأحبة حياته الشخصية والمهنية، فكتب زاوية «تحت القسم»، التي كان ينشرها في مجلة «الوسط» اللندنية عام (1989 – 2001)، والتي أعاد نشرها في كتاب «سياف الزهور»، ورغم أنه كتبها في «مقهى الشام»، إلا أن هذا المقهى الفخم ذي النجوم الخمس على جبينه، لم يستطع أن ينافس، ولو منافسة بسيطة، «مقهى أبوشفيق»، الذي لم يكن يتطلع إلى أية نجمة يضعها على جبينه، بل كان يتطلع إلى النجوم في السماء، ويرقبها وهي تسقط نجمة تلو الأخرى في نهر بردى، ليعيد الماغوط منذ صباح اليوم التالي، صياغتها متلألئة أكثر على أوراقه.

حين ذهب إلى باريس، اعتبر أن «كل شيء فيها: السياسة، الدين، الفن، الاقتصاد، يبدو حراً ومرناً كراقص الباليه، ومتماسكاً كحلقات السلاسل حول أقدام الأسرى، لكن رغم كل ذلك -يقول- لم أستطع أن أكتب فيها حتى ولو رسالة. وأحسست أن مقهى أبوشفيق أهم من كل مقاهي الشانزليزيه ومقتنيات متحف اللوفر».

يلتجئ الماغوط بعد المقاهي والتسكع إلى العزلة المديدة في المنزل، حيث كتب تاريخه الشخصي وتاريخ الذين تتجمع الآهات في حلوقهم، لتترسب على شكل غصات تجعل الدمع ينفطر في عيونهم وهم صامتون، تاريخ الذين يمارسون كل لحظة أقسى حالات البكاء في زمن كانت الأنظمة ومثقفون كثيرون يشيعون أن الأيام القادمة أيام عز وبطولة. لقد فتح الماغوط ملفات الفضيحة، وأرّخ للهزائم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والروحية والنفسية وتنبأ بهزائم لاحقة، وقعت فعلاً. لقد نجح الماغوط في تحقيق مشروعه الكتابي على نحو فذ، وخسر العربي مستقبله على نحو فذ أيضا.

«خارج السرب»

توج الماغوط مشروعه الكتابي بكتابة مسرحيته الشهيرة «خارج السرب» في منتصف التسعينيات عام 1993، التي مُثلت على خشبة المسرح نهاية التسعينيات عام 1999، وهي من إخراج الفنان السوري جهاد سعد، حيث اختار الماغوط فضاء الخشبة المسرحية نفسه، لتدور أحداث المسرحية على خشبة المسرح قلباً وقالباً، خلاف المسرحيات التي تختار فضاءات متنوعة بين القرى والمدن والأماكن المغلقة المختلفة. وفي النص يستعد أحد المخرجين المهتمين بالجوائز لإعادة إحياء المسرحية الشهيرة «روميو وجوليت»، التي ألفها الأديب الإنكليزي وليام شكسبير، على أحد المسارح السورية، وقد اختار الماغوط له اسماً أكثر دلالة وأقرب إلى المواطن العربي، اسماً ذا دلالات معينة فأطلق عليها «مسرح النخبة».

مسرح النخبة الذي كان وسط المدينة للدلالة على ثقافتها، ولكن السلطات الأمنية عمدت إلى إقصائه إلى ضواحي المدينة، وتجري الأحداث بتقديم العروض التجريبية والتدريبية «البروفة» قبل العرض، في فضاء مرتبط بالنص الأصلي تحديداً من «مشهد الشرفة» الشهير في مسرحية شكسبير.

يسلط الماغوط الضوء على العراقيل التي تواجه المسرحي في سورية خصوصاً، وفي العالم العربي عموماً، فبين مطرقة عيون الرقابة الأمنية والقراءة القبلية للنصوص وسندان التكاليف الإنتاجية التي لا يتبناها أحد يعيش المسرحي حالماً، يحول بينه وبين أهدافه آلاف العقبات والعراقيل.

في فوضى التحضيرات يظهر مندوب من الجامعة العربية ليجسد الماغوط من خلال هذه الشخصية دور الرقابة، الرقابة التي تتابع أدق التفاصيل وتحور في الركائز الأساسية دون أي مرجعيات، تفرض ما تشاء وكيفما تشاء وفي الوقت الذي ترغب فيه، ضاربة بعرض الحائط تاريخ شكسبير ونصه الخالد. يظهر المندوب الفاسد ليدمر النص ويطالب بتغيرات تقضي على كل ما هو فني وجمالي في العرض، فينفض الممثلون واحداً تلو الآخر ليبقى في نهاية المطاف عامل النظافة وحيداً على خشبة المسرح. وفقا للكاتب أحمد خضر.

وفي صحيفة الحياة الجديدة، وفي مقال تحدثت كاتبته عن زيارتها للماغوط، وفي سهرة أقامتها له في بيت صديقة لها، وهي الفنانة التشكيلية عتاب حريب، تقول: دعوت أيضاً الشاعر الفنان نزيه أبوعفش والممثل المعروف رضوان عقيلي. وفي السهرة سأله الفنان رضوان عقيلي عن نتائج مسرحية «خارج السرب»، وهبط السؤال كعود ثقاب على خزين من الأسى والغضب المدفونين،

ليرد الماغوط: يضحكون علي ويهزؤون من طيبتي وكأنني طفل صغير، وساعدهم على ذلك خجلي لأنني خجول بطبعي، لقد ضحك علي جهاد سعد وقال إن المسرحية «ما اشتغلت جيدا»، لطش المصاري، أعطى القليل جدا. حتى للعاملين في المسرحية ما أعطاهم إلا القليل. معظم الذين عملت معهم في المسرح استغلوا طيبتي، حتى دريد لحام استغل طيبتي واستغلني للعبور، ولهذا فأنا أفكر بأن أشكل فرقة مسرحية خاصة بي وأسميها فرقة محمد الماغوط، لأكون بها حرا.

ومن جهة أخرى، وفي بداية العرض المسرحي في دمشق تنفرد صحيفة الحياة اللندنية بلقاء خاص مع الماغوط والحوار حول رأيه بالمسرحية، إذ يرى الماغوط العمل جيّداً وفي تحسن مستمر، ويرى أن من شروط نجاح أي عمل مسرحي أن يتبناه جميع العاملين فيه، حتى إن قاطع التذاكر إذا لم يكن راضياً عن النص، فذلك يؤثر بطريقة ما على العمل المسرحي، واصفاً جهاد سعد مخرج المسرحية بالمبدع والمتميز في إخراجه وفي أدائه لدور قاطع التذاكر عاطف.

وحول ما إذا كانت الكوميديا جديدة على جهاد سعد، وشعوره بذلك خلال العمل معه، يرى الماغوط أن نصه ليس كوميديا عاديّة، بل كوميديا سوداء؛ الضحكة تنبعث من الجرح، لا من الفم. وفيما يخص وجود دور بطولة في المسرحيّة يؤكد مجددا، كما يقول دائما: أنا لا أكتب كوميديا استهلاكيّة، ولذلك ليس عندي بطل يستأثر بالأضواء، ويحوّل باقي الممثلين ديكوراً وأقزاماً. كل شخصية لديّ لها بطولتها الخاصة، همومها وأحلامها. وعن تركيزه على الهامشيين يجيب: إذا كان هناك أمل في هذه الأمة، فهو من الهامشيين، وليس من ممثلي النخبة وأصحاب الوجاهات. لكن لابد من إيضاح نقطة أساسيّة، الهامشي عندي هو المواطن الذي يبقى في الظل، لا الهامشي بالمعنى الفلسفي.

وبما أن البعض يعتبر طريقة تناول كل سياسة، وتوظيف القضايا والشعارات على الخشبة نوعاً من التنفيس فإن الماغوط يكتب للمسرح كما يكتب الشعر، أما التسميات فلا تعنيه. يقول: لو جاء إلي الآن من يقول إن ما أكتبه ليس شعراً ولا مسرحاً، فلن يرف لي جفن. وسأتابع الكتابة كما أفعل منذ نصف قرن.

ويرد الماغوط عن كيفية كتابته نصّ «خارج السرب» بأنه كتبه على مراحل؛ منذ سنوات كان في ذهنه شيء ما عن تدخل النظام العربي والسوط العربي في أدق تفاصيل حياة الإنسان، وجاءت الأحداث المتلاحقة، كانهيار الاتحاد السوفياتي وبروز ستالين أميركي أشد قسوة ووحشية، لتعزز حلمه بهذه المسرحية وتؤجله في انتظار انهيارات أخرى! وقد صدق حدسه كما يقول، فها هي الانهيارات تتساقط علينا كالمطر الإفريقي، حتى صارت سيولاً...

وفيما إذا كان عنوان المسرحية يعبر عنه يقول الماغوط: أنا بطبيعتي «خارج السرب»، في الشعر وفي المسرح وفي الحياة، وزكريا تامر يعرف هذا أكثر من أي كان. في حياتي لم أجلس في منتصف الصف في السينما أو المسرح، أو على طاولة وسط المقهى، دائماً أنتقي ركناً منعزلاً عن كل شيء، وقريباً من كل شيء، وأحدق في الرصيف، لأتأمل الأقدام الحافية، وسيارات الشبح في شارع واحد. كانت تنقصنا الأشباح، كأن أشباح الليل والكوابيس لا تكفينا! مؤكدا أن الشعر أساس مسرحه الذي يكتبه.

ويعتقد الماغوط أن «خارج السرب» أنضج مسرحيّاته، وهي على العموم الأكثر قرباً إلى قلبه، لم يتدخل فيها أحد، متمنياً أن تكون أكثر قرباً من الناس، وعلى خشبة المسرح أخذ المخرج بتصوره للشخصيات؛ فجهاد كما يقول الشاعر: أحب المسرحية لأنه يحبني، ويحب شعري وأدبي، وحاول أن يعطي صورة صادقة عنّي، وأن يخدم رؤيتي بتفان، وكان مبدعا في إخراجه وفي تمثيله.

وحول إمكانية إعادة كل عنصر في المسرحية إلى أصله في الواقع، يشير إلى أن النظام العربي القائم ليس نظاماً حراً، والمسرح الصغير يجد مكانه داخل المسرح الكبير. الوطن العربي مسرح، والشعوب كومبارس. المسرحية تلغي هذه الحدود، فالماغوط جال العالم بكل مسارحه عن طريق القراءة والكتابة والاطلاع، وربما يدين للمسرحي الايطالي لويجي بيرنديللو في استخدام تقنيّة «المسرح داخل المسرح»، منذ استخدام تلك التقنيّة في مسرحية «المهرج»، وفي «خارج السرب» لم يعتبرها جديدة عليه، وبالمقارنة بين المسرحيتين نجد أن بطل «خارج السرب» أشبه بالمهرج... ويجد الماغوط أيضاً أن «عاطف» بطلها فيه ملامح منه، ضائع، جدي، ساخر، مثقف، أمي، لا نعرفه فعلاً. ويرى الشاعر أن الشعر أساس كل مسرحية كتبها، فالمسرحية بالنسبة إليه قصيدة مبسطة، عنده سخرية في الشعر كما في المسرح. وهو يعتبر نفسه هاوي مسرح، ليس محترفاً. ويحاول الماغوط في المسرح أن يعبر عن الأشياء التي لا تستوعبها القصيدة. المسرح عنده أشبه برجل يدخل إلى غرفة مظلمة، فيدلّه على مفاتيح الكهرباء، ويقول له أن ينام على السرير بدل العتبة، وأن يضع حذاءه على العتبة بدل السرير، وألا يستحم في المطبخ... وكان من محبته للمسرح عازما على تأليف فرقة محمد الماغوط التي ستختص بأعماله، ولن تمثل سوى مسرحياته.

«خارج السرب» على المسرح الفلسطيني

مثلت مسرحية خارج السرب على خشبة المسرح الفلسطيني وقُدمت بإخراج الفنان الفلسطيني كامل الباشا، بقالب مقرب من الشعب الفلسطيني، وكان عرضها الأول على المسرح الوطني الفلسطيني يوم الاربعاء الموافق 2016/3/9. وشارك في التمثيل 16 ممثلا فلسطينياً، 14 منهم هم من الهواة وعاشقي المسرح، ولمعظمهم هذا العرض هو الأول لهم على الخشبة، في حين كان الفنانان عزت النتشة وداود طوطح صاحبي خبرة أوسع وتجربة أكبر في هذا المجال. طالت المدة المسرحية إلى نحو ساعة وأربعين دقيقة، مقدمة في خمسة وأربعين مشهداً. وقد لقيت إعجابا جماهيريا كبيرا.

وفاة الأم... الحب الكبير

بعد وفاة زوجته بعدة سنوات توفيت والدته ناهدة عام 1987 بنزيف حاد في المخ. هي السيدة التي طالما تحدث عنها الماغوط بكل حب، مسترجعا ذكرياته الجميلة معها، ولو قل حديثه أمام وسائل الإعلام عنها، إلا أن كتبه باحت بذاك الحب الكبير. وفي هذا السياق ينقل الكاتب سليمان بختي، عن الماغوط متحدثا عن والدته: «جاءت أمي من السلمية للبحث عني والاطمئنان. ركبت البوسطة إلى دمشق التي لم تزرها في حياتها من قبل، أول مكان زرته وزارته أمي خارج السلمية كان سجن المزة».

وظلّ يتذكر حتى آخر عمره ما كانت تغنيه له أمه في طفولته: «جمال محملة/ وأجراس بتعنّ/ وأيام المضت عالبال بتعن/ حملت بضاعتي ورحت بيعن/ غريب وما حدا مني اشترى».

وكتب الماغوط في رثاء والدته في كتابه «شرق عدن غرب الله»، يقول:

في صندوق عرسها المصدف

وبين كعك المناسبات وجيوب الأمانات والحناء وعروق الغار والريحان والذكريات

كانت قفة التمر السنوية تربض كما يربض الكرملين في الساحة الحمراء

وتجلس أمي في معجنها عند الفجر

وتغني للغائبين أن يعودوا

وللمرضى أن يبرؤوا

وتزغرد في كل عرس ولو لم يكن يخصها في شيء

ثم تنفض المشمعات وأطباق القش الملونة

ولا تأكل إلا الحثالة

وعندما قضت ذات مساء

عرقل فلاح بسيط إجراءات الدفن

بدراجته النارية الهرمة وصرخ وهو يبكي بمرارة وسط سحابة من الغبار: لقد ماتت سلمية.

شادي عباس