لم تمر علينا لحظة أقسى من الغزو واحتلال الوطن، فأي قسوة أن تستيقظ صباحاً لتجد نفسك بلا وطن!

ورغم أن الوطن، وقتذاك، حوَّله الغازي والمُحتل إلى جمرة، لكننا لم نفرّط فيه، وتمسَّكنا وأمسكنا جمرة الوطن، لإدراكنا أن جمرة الوطن، حتى وهي رمضاء، لا يمكن أن تحرق أبناءها، وإن اكتوت أيدينا بجمرتها، أو لفحت نيرانها وجوهنا وأجسادنا، فلم ولن نفرّط في الوطن، حتى لو عمد البعض إلى أن يجعله جمرة، فتلك الجمرة ستكون بعزمنا وصبرنا رماداً تذروه الرياح في مشاعرنا المتعلقة بالوطن، وهكذا كان أمرها إبان الغزو، واندحر الغزاة، وتم الحفاظ على الوطن، وخاب ظن مَنْ أراد حرقنا بجمرته.

Ad

واليوم هناك مَنْ يخطئ في تقديره، ويستبد بسُلطته، فيحاول أن يستعمل جمرة الوطن، ويحرّض على استخدامها لحرق أبنائها، مُغفِلاً حقائق التاريخ والمنطق ووجود وطن.

يمرُّ بلدنا اليوم بمرحلة مفصلية من تاريخه، مشهد يتصدر فيه الفاسدون واجهات مؤسسات البلد، ويعبث نفر من المتنفذين بمقوماته وثوابته وثرواته، ويوظفون نفوذهم الواهم وأموالهم الفاسدة، التي استولوا عليها من مقدَّرات الدولة، أو جمعوها من الحرام ومشاريع وتعاقدات غير مشروعة، ويحاولون أن يستغلوا حاجات الناس أو ضعفهم أو سذاجتهم، ولربما عزلتهم، وإيثارهم السلامة، معتقدين أن الأمور قد آلت إليهم، ولا معقب على نفوذهم، فبلغوا مرحلة الطغيان والفجور في كل شيء.

وقد بدأ مسلكهم ومخططهم الخبيث يصبح مكشوفاً ومعلوماً لجميع الناس، بعد أن أوهموهم بخلافه فترة من الزمن، فنسوا أنفسهم وهم في غمرة النفوذ والهيمنة التي تحققت لهم، وفي خضم سيطرتهم على مفاصل الدولة، وفي ظل اختراقهم سُلطات ومؤسسات البلد، والتأثير المباشر على القرار، وفي لحظة نشوة امتلاكهم للثروات المالية الطائلة.

فسعوا إلى محاولة تحويل الوطن إلى جمرة لحرق المخلصين من أبنائه، بل وجميع أبنائه ومكوناته، فجدّوا في الوشاية ضد كل محاولة للإصلاح والمصلحين، بكيل تهم التخوين لإقصائهم عن مواضع التأثير، وشيطنتهم في أعين السُّلطة، وبتسخير الإعلام الفاسد المأجور ليتبنى أطروحاتهم ويردد أباطيلهم، وعزفوا على أوتار العبث بمكونات المجتمع، إثارة لنعرات فئوية أو قبلية أو طائفية أو اجتماعية، وتفننوا في محاصرة الحريات والعبث بالانتخابات، والظالم من التشريعات وترتيب الملاحقات، والتهجير والإحالات، والانتقائية والإقصاءات، بلوغاً للإعدام السياسي وإسقاط العضويات... كل ذلك كان من خلال إيقاد نيران هنا وهناك، لتحويل البلد إلى جمر يحرق أبناءه أو ترهبهم كثرة الجمرة فتخرسهم للأبد.

فخيَّب الله مساعيهم، وكشف نواياهم، وبدأت تنكشف ألاعيبهم، وتُفضح مؤامراتهم، وتتساقط ادعاءاتهم، وأدرك الداني والقاصي مساعيهم وانحرافهم.

فدارت الدوائر عليهم، وأدركت السُّلطة إساءاتهم وتبعة التمسُّك بهم أو استمرارهم. والأهم أن جمرة الوطن صارت رماداً أعمى أبصارهم كما بصيرتهم، وخاب فألهم، وفاتهم أن جمرة الوطن لا تحرق أبناءها.

محمد المقاطع