هبط الركاب من الطائرة في ساعة متأخرة من الليل، وكان بينهم الشاب العائد إلى وطنه، ويحلم أن يكون محطته الأخيرة، ويكف عن الذهاب والعودة في إجازات قصيرة، ويحظى بحياة سعيدة مع أسرته الصغيرة، وحين أنهى فهمي إجراءات الخروج، حمل حقائبة مغادراً المطار، وكان في انتظاره أحد أصدقائه واقفاً أمام سيارته، وفي الطريق مرت من أمامه أطياف ذكريات عن حياته الماضية، وارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة، بينما يتعجل الوصول إلى منزله في إحدى المدن القريبة من القاهرة.

وفي الطريق سأله صديقه «زاهر» عن مشروعاته المقبلة، وما إذا كان ينوي السفر مرة أخرى أم سيستقر مع أسرته، وكانت إجابة فهمي حاسمة بأنه يريد أن يكون بجوار زوجته وطفلته، وكفاه أنه أمضى خمس سنوات بعيداً عنهما، وحان الوقت ليؤسس مشروعه الخاص، ولكن ما يشغله الآن هو العودة سريعاً إلى بيته، وأن يحظى بإجازة قصيرة، ويفكر في هدوء عن العمل المناسب، فلا مجال لمغامرة غير مأمونة العواقب.

Ad

كان الصديقان من أبناء منطقة واحدة، وتزاملا في الدراسة منذ التحاقهما بالمدرسة الابتدائية، وحتى حصولهما على شهادة متوسطة، وظلت فكرة السفر تشغل تفكيرهما، وقادهما طموحهما للعمل الخاص، فعملا فترة في شركة مقاولات، وخلال تلك الفترة بحث فهمي عن عروس، وتزوج من ابنة الجيران، وأنجب منها «نرجس» بينما أرجأ زاهر فكرة الزواج، وحين أنهت الشركة أعمالها، أصبح الصديقان في مأزق، واضطر فهمي للبحث عن فرصة عمل خارج البلاد، بينما ورث زاهر محل «الكوافير» عن والده، وعدل عن فكرة السفر.

قطعت كلمات فهمي الطريق على صاحبه، ولاذ بالصمت في أثناء قيادته السيارة، وأدرك زاهر أنه تسرّع في تساؤلاته، لكنه لم يفقد الأمل في إقناع صديق عمره بفكرته، وأن يختار الوقت المناسب ليدعوه لمشاركته في محل «الكوافير» الذي يفتقر للتجهيزات الحديثة، ولا يملك المال اللازم لتطويره، ولن يجد أحداً يساعده سوى الصديق العائد من السفر، ومعه مدخراته التي يريد استثمارها في مشروع تجاري، وعليه أن ينتظر ما تسفر عنه الأيام المقبلة.

ساد الصمت بين الصديقين، واستسلم كل منهما لأفكاره الخاصة، وربما تقاطعت ذكرياتهما البعيدة، والآن أصبحا شابين في الثلاثينيات من العمر، وظروف الحياة باعدت بينهما، وها هما يلتقيان في ليلة صيفية خانقة، ويقطعان الطريق إلى بلدتهما، ولا يدري أحدهما ما تخبئه له الأقدار، وهل سيظل رباط الصداقة يجمع بينهما أم أن شيئاً ما سيحدث، وربما لم يخطر ببالهما خلال السنوات الماضية.

قطع فهمي حبل الصمت، وسأل صديقه عن أحواله، فقال زاهر: «لا شيء جديد، والأيام تمر متكاسلة بين المحل والمقهى»، فضحك فهمي، وقال: «طول عمرك تحلم بالسفر، ولكنك لم تفعل، ورفضت الفكرة تماماً، والآن تشكو من الملل، أنت محير فعلاً»، وعلى الفور تغيرت ملامح صديقه، وارتجت عجلة القيادة بين يديه، وكادت السيارة أن تخرج عن مسارها وتصطدم بالرصيف، ولكنه استعاد توازنه في طريق مليء بالضباب، وحاول فهمي أن يخفي اضطرابه، ولم يعلق بشيء، وفي تلك اللحظة لاحت من بعيد الأضواء الخافتة المنبعثة من منازل مدينتهما الصغيرة، وابتسم زاهر، قائلا: «حمدا لله على السلامة».

عودة الغائب

استسلم فهمي لنوم عميق، واستيقظ في عصر اليوم التالي لعودته، وللمرة الأولى يشعر بالأمان، وعدم إحصاء الأيام المتبقية على سفره، وغمرته السعادة لأنه سيبقى مع زوجته وطفلته، ويعوضهما عن سنوات غيابه، وتأهب لاستقبال زائريه، وكان بينهم صديقه «زاهر» وتجاذب معهم أطراف الحديث، وفي أثناء وداعهم عند باب المنزل، أخبره زاهر أنه يريده في أمر بالغ الأهمية، واقترح عليه أن يخرجا غداً بالسيارة، حتى يستطيع أن يتكلم معه باستفاضة، واستفسر فهمي عن الأمر، فقال زاهر مبتسماً إنه بخصوص مشروعه التجاري.

حان الموعد المرتقب، واستقل فهمي السيارة مع صديقه، وفي الطريق عرض عليه أن يشاركه في محل «الكوافير» وأن يتقاسما الأرباح بينهما، ولكن فهمي أخبره أنه صديق عمره، ولا يريد أن تفسد التجارة صفو صداقتهما، وإذا كان يرغب في أي مساعدة سيلبيها في الحال، وأسقط في يد زاهر، وشكره على نواياه الطيبة تجاهه، ثم سأله عما سيفعله، فقال فهمي إنه ينوي افتتاح «بوتيك» لبيع الملابس الجاهزة.

وانقطع زاهر عن زيارة صديقه من دون سابق إنذار، وحين هاتفه فهمي ليطمئن عليه، تعلّل بأنه مشغول في المحل، وفي أقرب فرصة سيرتب معه لقاءً من أجل معاونته في تنفيذ مشروعه التجاري، وبدت المكالمة الهاتفية كأنها نذير بانقطاع صداقتهما، وساور فهمي القلق من كلمات زاهر المقتضبة، وأدرك أنه لا يريد أن يفصح عن استيائه من رفض الشراكة معه في مشروع تجاري، رغم أنه لم يقصد الإساءة إليه، فهو صديق عمره، وبمثابة أخ له، ولكنه لم يتفهم أسباب الرفض، واعتبرها نوعاً من الإهانة، وكاد فهمي أن يذهب إلى صديقه، ويشرح له وجهة نظره مرة أخرى، ولكنه انتظر حتى يكون لقاؤه بصديقه مصادفة أو بناء على طلبه، وحينها سيعرف أنه تقبل الأمر، وتجاوز ذلك الخلاف البسيط، وتعود صداقتهما إلى صفوها من جديد.

الدكتورة نرجس

في ذلك الوقت انشغل فهمي تماماً بأسرته، التي عاد إليها بعد طول غياب، وكرّس معظم وقته للجلوس مع طفلته «نرجس» التي سيقدم أوراق التحاقها بالمدرسة العام المقبل، وكان يسألها ضاحكاً: «ماذا تريدين أن تعملي عندما تكبرين»، فتقول ببراءة متناهية: «أريد أن أكون دكتورة مثل عمتي نرجس»، وكان فهمي قد سمى ابنته على اسم شقيقته التي تفوقت في دراستها، ودخلت كلية الصيدلة، وتزوجت من زميل لها، ويعملان معاً في صيدلتهما الخاصة.

وبعد أيام قليلة، اختفت الطفلة نرجس في ظروف غامضة، وتقدم فهمي ببلاغ للشرطة عن اختفاء ابنته الوحيدة، وتكثفت التحريات للعثور عليها، وبسؤاله عن وجود خصومه مع أحد من جيرانه، قال إن علاقته طيبة مع الجميع، وربما تعرضت طفلته إلى اختطاف، وجرى إخطار جميع الأقسام بأوصافها، وطلب رجال المباحث من الأب المبلِّغ أن يخبرهم بأية تطورات جديدة يمكن أن تحدث خلال الأيام المقبلة.

وتحولت حياة فهمي وزوجته إلى مأساة، ولا يدريان ماذا حدث لطفلتهما، وهل ستعود إليهما مرة ثانية، وتهاوى الخيط الواهن للأمل، حين طرق بابهما رجال المباحث، وأخبروا فهمي أنه جرى العثور على جثة طفلة في مكان مهجور على أطراف المدينة، وهوت الصدمة على الأب عندما تعرّف على جثة ابنته، وانهار مغشياً عليه من هول الفجيعة، وتبين وجود كدمات وآثار تعذيب على جسد الضحية البريئة، وتكثفت التحريات من جديد للقبض على الجاني.

ورفض فهمي أن يتقبل العزاء في ابنته، حتى يتم القبض على الجناة، ولا يدري بأي ذنب قُتِلَت، وتوصلت تحريات الأجهزة الأمنية إلى أن وراء ارتكاب الواقعة «زاهر» صاحب محل كوافير وصديق والد الضحية، وأنه استعان باثنين من الشبيحة، وقاما بخطف الطفلة أثناء نزولها إلى الشارع، وقاما بتكميمها، ووضعاها في جوال، وكان زاهر في انتظارهما بالسيارة، وانطلقوا بها إلى مكان مهجور، وحين أخرجوها من الجوال، تعرفت على صديق والدها، وتعالى صراخها من الفزع، وبينما يحاول أن يمنعها من الصراخ، جرت من أمامه، فلحق بها وانهال عليها ضرباً حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، وتخلص منها بمساعدة معاونيه، وانطلقوا مرة أخرى بالسيارة.

صدمة الأم

وأمام المحقق انهمرت والدة نرجس في البكاء، وأعجزتها الصدمة عن تصديق أنها فقدت ابنتها الوحيدة، بل إنها تعيش أحداث كابوس مفزع، وسرعان ما تفيق منه، لتجدها نائمة بجوارها، وظلت تهذي، قائلة: «كانت كل حياتي... بنتي وصاحبتي... حين سافر زوجي للعمل في الخارج، ويوم الحادث على غير عادتها وجدتها تحضنني بشدة، ثم أحضرت كراسة الرسم، ورسمت ثلاثة أشخاص، وكتبت (بابا وماما ونرجس) وطلبت مني النزول إلى الشارع لتلعب مع صديقاتها، وحين تأخرت، نظرت من الشباك، ولم أجدها، فجريت إلى الشارع، وسألت الأطفال عنها، ولكنهم قالوا إنهم لم يروها اليوم، واتصلت بفهمي الذي أتى مسرعاً، وكان سيصحبنا معه في إجازة، وزاهر كان صديق عمره، ولكن الغيرة أعمت بصيرته، وانتقم من فهمي لأنه رفض أن يشاركه في محل الكوافير».

وأخذ المحقق ينصت للأم من دون أن يقاطعها، وهي تعرب عن حزنها الشديد، قائلة: «لا أنام من يوم الحادث، ابنتي تأتي لي في المنام، وتقول لي هاتِ حقي يا ماما، مَنْ يصدق أن زاهر يفعل ذلك، مع أنه كان أكثر من صديق لفهمي، وقبلها بأيام عرض عليه فكرة أن يكون شريكه، ولكن زوجي رفض لأنه لا يريد أن يخسر صديقه بسبب التجارة أو أي شيء آخر، إلا أن زاهر غدر بصاحبه وخان العيش والملح».

وانتهت أقوال الأم بعد أن قالت بصوت ذبيح: «نرجس كانت تأخذ عروستها (دُميتها) التي لا تتركها من يديها نهائياً وتنزل الشارع لتلعب مع صديقتها بنت الجيران، وكنت في كل لحظة أنظر من الشباك، وأطمئن عليها، وأحياناً أنادي عليها وقت الغداء، وبعد أن جاء فهمي من السفر، كانت سعيدة برجوع أبيها، ولم تنزل الشارع، حتى جاء هذا اليوم عندما استيقظت من النوم، وعرفت أن والدها خرج ولن يعود إلا في المساء، فطلبت مني أن تلعب مع صاحبتها، وبعدها فقدتها للأبد».

دائرة الاشتباه

كان زاهر بعيداً عن دائرة الاشتباه، ولا يمكن أن يخطر ببال فهمي أنه سيرتكب تلك الجريمة النكراء، وربما لهذا السبب أقدم على التخطيط لجريمته، وتملكته أبشع أنواع الغيرة، وترسخت في نفسه مشاعر الحقد والكراهية لصديق عمره، وأراد إيذاءه بأية وسيلة، بعد أن رفض عرض الشراكة، ولعب الشيطان برأسه، وسلبه إرادته كالمُنوَّم مغناطيسياً، وتحوَّل إلى شخص آخر لا يمت له بصلةٍ، وقرّر أن ينفذ خطة الانتقام في أقرب وقت، وقبل أن يفتتح فهمي مشروعه التجاري، وحينها لن يفيده ارتكاب الجريمة، وابتزاز غريم اليوم وصديق الأمس.

أشياء من هذا القبيل يتكرر حدوثها كل يوم، ولكن جريمة زاهر تحوّلت إلى عدة جرائم، بين الخيانة والخطف والابتزاز والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، وأدرك أنه لا يستطيع أن يرتكب كل ذلك بمفرده، ومن دون أن يدري قام بتكوين تشكيل عصابي بالاستعانة باثنين من الشبيحة، ولكل منهما سجل إجرامي، وسبق لهما دخول السجن أكثر من مرة، وكانا على استعداد لارتكاب أي شيء مخالف للقانون من أجل المال الحرام.

وتمكن رجال المباحث من كشف غموض تلك الجريمة، وأفادت التحريات بوجود شبهة في تورط زاهر في قتل ابنة صديقه، وأنه يتواجد مع اثنين من المسجلين خطر أمام محله، وجرى ضبط المتهمين الثلاثة، واعترفوا بارتكابهم الجريمة، وأن المتهم الأول زاهر كان يمر بضائقة مالية، وحين رفض صديق عمره أن يشاركه في عمل تجاري، قرر الانتقام منه، وخطف ابنته لابتزازه، والمطالبة بفدية، لكنه اضطر لكتم أنفاسها بعد صراخها المتواصل، حتى فارقت الحياة، وقرّرت النيابة حبسهم على ذمة التحقيقات، تمهيداً لمثولهم أمام القضاء، ونيلهم القصاص العادل جزاء ارتكابهم تلك الجريمة الآثمة.

هشام محمد