يمثل الشهر الكريم، بالنسبة إلى الأديب والناقد المصري محمد عطية محمود، فرصةً رائعة لصفاء الذهن ونقاء الروح، ويؤكد لـ"الجريدة" أن أحوال القراءة والاطلاع في رمضان قد تختلف من آن إلى آخر، وبحسب ما تؤدي إليه الحالة الروحانية التي تتراوح بين التفرغ للعبادة والقراءة وممارسة التأمل الذي يؤدي بدوره إلى المزيد من تنشيط الحالة الذهنية، ثم الاستعداد للعملية الإبداعية بتهيئة المناخ الخاص بها.

ويوضح صاحب كتاب "القصة القصيرة وأسئلة الوجود"، أن "الروحانيات هي أساس الإبداع، وهي حالة التوحد مع الكتابة من حيث كونها عملية إلهام وتفاعل مع الذهن، ومع ما يدور في المحيط"، لافتاً إلى أن "هاجس الكتابة هنا يكون على حافة التعامل مع تلك الحالة، وأذكر أنني كتبت العديد من أعمالي القصصية وأجزاءً من رواياتي في أيام مباركة من الشهر الفضيل، لعل أبرزها نقطة البداية في روايتي الأحدث (بهجة الحضور)، إذ سيطرت عليها الحالة الوجدانية الصوفية، كما كرستُ مساحةً من الوقت للكتابة النقدية يكون استقبال الأفكار والتعامل معها أكثر قدرة على الاستيعاب وسرعة البديهة، فشهر رمضان عموماً يمثل لديّ فرصة جيدة لشحذ الذهن وإن لم يكن بالإبداع، فإنه بالتأمل تمهيداً لإنتاج إبداع أكثر صفاءً".

Ad

ذكريات ملهمة

وهناك مبدعون تتألق أقلامهم في شهر الصوم، مثل الشاعر المصري أحمد طه، الذي خاض غمار السرد للمرة الأولى خلال رمضان العام الماضي، مصدراً روايته "رسائل سِيركِت".

يقول طه لـ"الجريدة": "لم تكن ثمة فرصةً أمامي لإنجاز أغلب روايتي الأولى إلا في أيام شهر رمضان، وها أنا أنتظر حلوله مجدداً لإنجاز أكبر ما يمكن إنجازه في الرواية الثانية، كيف لا وهو يعد فرصة زمنية فريدة لإعادة الترتيب وكسر العادات اليومية وتفريغ مساحات من الوقت ليست في سواه، فهو يحوِّل أوقاته كافة إلى كنوز زمنية".

يتابع: "يتخيل البعض أن المزاج العام يتأثر في رمضان بسبب التوقف المؤقت عما أدمناه أو ربما لقلة المجهود قبيل المغرب وبعده، وقد كنت أظن ذلك حتى مررت بتجربة الكتابة خلال هذا الشهر العظيم في جميع ساعاته، فوجدته أنسب الأوقات التي يمكن أن تنجز فيها عملاً إبداعياً وذكرياته تجعل الكاتب أكثر إلهاماً".

في حين يتسبب رمضان في إرباك مواعيد مبدعين آخرين، خصوصاً في بلد يعاني ويلات الحرب، ومن بينهم الروائي اليمني محمد الغربي عمران، إذ يقول: "رمضان حين يأتي يلخبط أنساق حياتي، فالقراءة والكتابة بالنسبة إليّ وعلى مدار أشهر السنة تسير وفق مواعيد سلسة، وبحلوله تتغير كل المواعيد والمواقيت، فالنهار نوم ثم نصحو في ظهيرة اليوم بمزاج غير سوي، والليل بالطبع غير جيد وغير مناسب هنا للحياة، كون الكهرباء منقطعة منذ ست سنوات بسبب أجواء الحرب".

ليست تلك قاعدة عامة بالنسبة إلى مبدع رواية "مصحف أحمر"، فبحسب قوله: "حين أكون بعيداً عن الحرب في مدينة مثل القاهرة يأتي رمضان بأجوائه الليلية ومقاهيه والصحبة الجميلة، أما هنا في اليمن فرمضان عذاب، ليس رمضان في حد ذاته، بل الحرب التي صبغت كل شيء، خاصة ما يتعلَّق بالليل، فلا خروج إلى الشوارع، ولا منتديات، حتى المدينة حزينة بلا خدمات ينخرها الخوف والرعب، فما بالك ورمضان يحل مع وجود كورونا".

يتابع مؤلف "مملكة الجواري": "نأمل أن يأتي رمضان إلينا وقد حل السلام، وعادت الكهرباء، ومسّ لياليه أمانٌ، وأن تكون المساجد دور عبادة، والبشر ينظرون للحياة بعظمةٍ وجمال، ومع ذلك نستمر في حياتنا ككتَّابٍ وكأنه لم يأتي ولم يلخبط النهار.. نستمر في الحياة وذلك البرنامج النهاري من القراءة مستمر.. ومن الكتابة وكل الخلق نيام".

فيما تقص علينا الشاعرة التونسية بسمة مرواني، صفحات من إيقاع يومياتها في رمضان، فتقول: "رمضان إشارة لكل نفسٍ تعي معنى النور اللامع، وفرصة لمحاسبة النفس كالطائر الحذر يخشى مهارة القناص وطائشة الرصاص، وأقصد أن يتقي الصائم الله ويصير بينه وبين ربه معرفة خاصة، فيعرض عن السيئات ويصوم عنها ليطمئن، فرصة لنرتقي بأنانا إلى ما بعد الروح، فنقضم آثامنا".

وفق مبدعة ديوان "إشارات آرتميس"، فإن رمضان "فرصة لأصنع لذاتي ليموناً حلواً، وأجعل للأسرة كيمياء الحياة بالقداسة التي تنهال على الأمكنة، حيث لقاء الأخوة في البيت الكبير وضم شملهم، إذ أنحت من شجن رخام الحروف كتاباتي، وتكون النّفس راغبةً في نثر ما يدور في الرأس لإكمال مشروعٍ كتابي شرعت فيه، وأيضاً لأكون في حضن بعض الكتب أمتطيها رخاءً، حيث أصيب في انتقائي".

وتقول الشاعرة السورية ميادة الأشقر: "قديماً وحديثاً يترنم الأدباء بالمعاني الروحية والدينية لشهر رمضان، باعتباره شهراً كريماً تتجلى فيه المحبة والتسامح والتناغم الديني والروحي وتصوم الجوارح كلها عن معصية الله، وشهر البركة بالنسبة إليّ له وقع خاص في الروح والنفس، حيث أستعيد الكثير من طقوسه منذ مرحلة الطفولة حتى الآن لأقرأ بشغف الاختلاف والفارق في بلوغ الشهر من جيل إلى جيل والتغيرات التي طرأت عليه، لأقوم بتدونها ونقلها نثراً أو مقالة".

وتضيف الأشقر، وهي أيضاً حقوقية وناشطة بالمجال الثقافي والإنساني: "لا شك أنني أعيد شحن طاقتي الروحية والفكرية عن معنى رمضان وفلسفته وما يحدثه من عمق وصفاء، ولأقرأ المزيد وأكتب المزيد ليكون الناتج حروفاً مقمرة يتجلى فيها الفكر نجوماً تتلألأ في سماء الأدب، ولا شك أنه يقع على عاتق الأدباء إيصال جزء من رسالة رمضان بكل إرثه الثقافي والفني والإبداعي والفلكلوري للعالم أجمع، حيث إنه يمثل كنزاً تاريخياً، ويبقى رمضان شهر المعرفة والتأمل والتذكر والكتابة المشوقة".

ذكريات شاعرة إريترية في شهر الفرقان

لا يقتصر عشق رمضان على الأدباء العرب فقط، بل يمتد عبيره إلى كل كاتب مسلم في أي مكان حول العالم، يحمل في قلبه ذكريات لا تُنسى عن الشهر الكريم، وتلك حال الشاعرة الإريترية، المقيمة في ألمانيا، فاطمة موسى، حيث تقول لـ"الجريدة": كنت منذ صغري أجد روحانية الشهر الفضيل مبجهة لوجداني، وتعود بي الذكريات الرمضانية إلى طفولتي وحرص أمي وأبي على العبادات والأخلاق والتربية التي رسخت فينا حب الصيام والعطاء وصلة الرحم وحفظ وتلاوة القرآن".

تواصل الكاتبة التي تنتظر قريباً صدور مجموعتها الشعرية الجديدة "هجرة البلانفورد": "كنت أنا وأخوتي نتنافس لختم القرآن، وكنت أحب المطالعة منذ صغري، وفي مكتبة أبي رحمه الله أطالع كتب مثل (تفسير بن كثير)، و(عبقرية محمد) لعباس العقاد، و(رجال حول الرسول) الذي يتناول سيرة الصحابة الأجلاء ومآثرهم الحسنة، وهذه الطقوس توجد في معظم البيوت الإريترية فتزداد حلقات الذكر والعلم وصلوات التراويح وزيارات التراحم، وجلسات حفظ القرآن التي تحفظ لغة الضاد البديعة في إرتيريا". وتوضح: "رمضان بالنسبة إليّ شهر المطالعة والقراءة، حيث أحشد ذهني بمعلومات تكون ملهمة في يوماً ما".

أحمد الجمَّال