بينما يتجه العالم نحو تعظيم قيم حماية المنافسة ومحاربة الاحتكار، من خلال تقييد الممارسات الاحتكارية وكشفها وفرض الغرامات والعقوبات على المتسببين بها، فضلاً عن تشجيع التنافس بين الشركات وفتح الأسواق بما يصب في النهاية بمصلحة المستهلكين، نعاكس نحن في الكويت هذا الاتجاه العالمي بشكل شبه مُعلن، من خلال تفريغ القانون المعني بحماية المنافسة من محتواه!

فخلال الأسبوع الجاري، فرضت سلطات مكافحة الاحتكار الصينية على شركة علي بابا للتجارة الإلكترونية غرامة بلغت 2.78 مليار دولار، بسبب ممارسات الشركة الضارة بالمنافسة، وهذه الغرامة التي فرضتها الصين على شركة علي بابا لافتة -ليس فقط في قيمتها القياسية، بل أيضا في معانيها- عن أيّ غرامات متكررة طالت الشركات العالمية الأخرى في الجانب الآخر من العالم، خلال السنوات الماضية، كشركات السيارات والتكنولوجيا والطيران والبنوك العالمية.

Ad

فقد جاءت الغرامة في حالة شركة علي بابا من دولة كانت حتى عهد قريب محدودة الاهتمام بقضايا مكافحة الاحتكار وحماية المنافسة، باعتبار أن هذه المفاهيم بات وجودها في أيّ سوق قيمة مضافة تصب في مصلحة الاقتصاد، وتخفض المخاطر المتنوعة من آثار السياسات التضخمية على المستهلكين، كما أنّ هذه الغرامة شكّلت تقويضاً لشركة عالمية تمثّل وجها من وجوه "السياسة الناعمة" للصين في تسويق نموذجها الى العالم، وتنافس كبريات منصات الشركات العالمية في التجارة الإلكترونية.

الصين و«الكونغرس»

تتسق هذه الغرامة الصينية مع سلوك عالمي يحارب الاحتكار بشراسة، ليس فقط من خلال فرض الغرامات والعقوبات، بل أيضا في مناقشات شهدتها قاعات "الكونغرس" الأميركي قبل أشهر، عندما تم استجواب شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى، مثل أبل وأمازون ومايكروسوفت وفيسبوك وألفابت، المالكة لـ "غوغل"، لضخامة أعمالها في السوق، خصوصا أنها قامت مجتمعة بـ 730 عملية استحواذ على شركات أصغر حجما في السنوات الخمس الأخيرة، مما حوّل هذه الشركات من منافسين محتملين إلى جزء من الكيان.

وبلغت النقاشات في "الكونغرس" نهاية العام الماضي مستوى متقدما كاد يفضي الى إجبار هذه الشركات على الانقسام لكيانات متنافسة، كي لا تسيء استخدام قوتها كمسيطر على سوق معيّن في فرض رسوم باهظة أو شروط تعاقد صارمة أو الحصول على بيانات مهمة من جانب الأفراد والشركات التي تعتمد عليها في الحصول على الخدمات.

تمييع التعريف

في حين يتجه العالم شرقه وغربه، بشيوعيته ورأسماليته، نحو مفاهيم حماية المنافسة ومحاربة الاحتكار، باعتبارهما مقوضين للنشاط الاقتصادي وأشد الممارسات الضارة بالمستهلكين، فإنّ الكويت كعادتها تتخلّف عن الرَّكب، وهذا ليس تجنيا، بل مثبت بما صدر في القانون رقم 72 لسنة 2020 بشأن حماية المنافسة، الذي ألغى القانون السابق (قانون رقم 10 لسنة 2007) في شأن حماية المنافسة المعروف بـ (10/2007)، بدعوى تطويره ومواكبة الاتجاهات العالمية بهذا الشأن.

غير أنه بعد المقارنة بين القانونين، يمكن بسهولة ملاحظة أن القانون الجديد الصادر في نوفمبر 2020 "مَيّع" عمليات تجريم الاحتكار بشكل لافت، لاسيما عند إزالة الفقرة "د" في تعريف عملية السيطرة من أنها "وضع يتمكن من خلاله شخص أو مجموعة أشخاص تعمل معا، بشكل مباشر أو غير مباشر، من التحكم في سوق المنتجات، وذلك بالاستحواذ على نسبة تجاوز 35 في المئة من حجم السوق المعنية"... إلى النص الجديد الذي عرّف السيطرة بأنها "العلاقة القانونية أو التعاقدية التي تؤدي بشكل منفصل أو مجتمع الى التأثير الحاسم".

تقدير ومزاجية

وما بين التعريفين يمكن القول إن التعريف السابق الذي حدد نسبة الـ 35 في المئة كوضع للسيطرة، تترتب عليه إجراءات قانونية وعقوبات، كان أكثر وضوحا وجزما من التعريف الجديد الذي لم يضع نسبة بديلة، وحمل من العموميات ما يجعل تطبيقه أكثر عرضة للتقدير أو حتى المزاجية، بل إن هذا التعديل نسف العمود الفقري الذي تقوم عليه عمليات مكافحة الاحتكار في تحديد نسبة لا يتجاوزها أيّ خاضع للقانون، وإلا اعتُبر مخالفا.

ولعل هذا التعديل بات مريحا لشريحة غير محدودة من المتحكمين في توريد السلع الاستهلاكية أو الغذائية أو الدوائية، لدرجة الاحتكار، لأنّ القانون لم يضع سقفا لتعريف السيطرة على سوق معيّن، وتركها فضفاضة بلا تحديد.

جهاز بلا عمل

المتتبع لواقع حال حماية المنافسة في الكويت يعلم أن الإدارة الحكومية تعاملت مع هذا المفهوم بقدر عال من التسطيح خلال سنوات طويلة، فالقانون السابق رقم 10 لسنة 2007، رغم أنه أنتج جهازا تابعا هو جهاز حماية المنافسة، فإن هذا الجهاز لم يقدّم طوال 11 عاما أيّ تطور نعرفه في مجال اختصاصه، حتى تغيّر مجلس إدارته عام 2017، ليعلن المجلس الجديد أنه بحاجة إلى 5 سنوات لتطبيق أهدافه التي يبدو أنه لم يتحقق منها شيء، ونحن على مشارف نهاية السنوات الخمس المطلوبة.

فلا تزال على سبيل المثال أمثلة الاحتكار صارخة في شركات وقود السيارات، إذ ترجع ملكية الشركتين لعائلة واحدة، أو شركات توصيل الأغذية والمستلزمات، إذ ترجع ملكية أكبر شركتين في السوق لمالك أجنبي واحد، ولا تزال الدولة تضمن الاحتكار باشتراطها مثلا إصدار قانون لتأسيس بعض الكيانات الاقتصادية، مثل شركات الاتصالات أو البنوك، فهذا من صميم عمل المستثمرين لا الدولة، التي يجب أن تنحصر مسؤوليتها في تنظيم القطاعات والخدمات وحماية المنافسة، خصوصا اذا كانت الدولة أصلا لا تمتلك هذه القطاعات أو تديرها.

حماية المنافسة ليست شعاراً يقال، أو مفتاحاً لتأسيس جهاز لـ "تضبيط المناصب"، بل هي مفهوم بات ينتشر بصورة عالمية وله ارتباطات عدّة بالحد من التضخم وحركة الأسعار وحتى الأمن الغذائي والاقتصادي بأيّ دولة... وهذه مفاهيم يجب أن تستوعبها الإدارة الحكومية، وإلا فلا قيمة للصرف على جهاز يطبّق قانونا فضفاضا لا يحدد قواعد السيطرة والاحتكار في السوق.

محمد البغلي