أدى تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية عام 2016، وفي التحقيق اللاحق الذي أجراه المستشار الخاص روبرت مولر، إلى توجيه انتباه العالم نحو حرب المعلومات. ومن المعروف أن روسيا ودولا فاسدة أخرى استعملت مواقع التواصل الاجتماعي للتأثير على جميع الجهات، بدءاً من الناخبين الأميركيين وصولاً إلى المشاركين البريطانيين في استفتاء «بريكست» ومؤيدي الحرب الأهلية في ليبيا. لكن لا يدرك الكثيرون حتى الآن أن معظم حملات التضليل التي تدعمها الدول عبر مواقع التواصل الاجتماعي لا تستهدف الرأي العام الخارجي بل المحلي.

ويكون نطاق معظم حملات التضليل المدعومة من الحكومات على مواقع التواصل الاجتماعي محلياً، وقد جمع «مشروع الدراسات التجريبية للصراعات» في جامعة «برينستون» لائحة من 18 دولة أطلقت حملات مؤثرة عبر مواقع التواصل محلياً، لكن ست دول منها فقط سعت إلى التأثير على بلدان خارجية، منها الصين وإيران وروسيا والسعودية.

Ad

ويذكر تقرير جديد أصدره «فيسبوك» استنتاجا مشابها، ويوثق على منصته حملات جديدة تستهدف الجماهير المحلية في 4 دول لأسباب داخلية. وكانت إيران الدولة الوحيدة التي استهدفت أيضاً الجماهير الخارجية، لاسيما في الدول الإقليمية، في محاولة منها للتأثير على مستخدمي فيسبوك في العراق وإسرائيل.

وكثف المتصيدون التابعون لوكالة أبحاث الإنترنت، التي يملكها الأوليغارشي الروسي، يفغيني بريغوجين، والمعروفون بجهودهم الرامية إلى تحسين حظوظ دونالد ترامب في انتخابات 2016، حملاتهم لكتابة تغريدات روسية واستهداف الجمهور الروسي. كان هؤلاء المتصيدون ناشطين في أول ستة أشهر من عام 2014، وحصروا تواصلهم بالجماهير الروسية قبل أن يبدأوا استعمال اللغتين الإنكليزية والأوكرانية. لكن لم يوقف المتصيدون في الوكالة محاولات توجيه المحادثات المحلية في روسيا بعد هذه المرحلة أيضاً. رصد «تويتر» علناً أكثر من 9 ملايين تغريدة من متصيّدي وكالة أبحاث الإنترنت بين عامي 2014 و2018، وكان أكثر من نصفها باللغة الروسية.

في الأسابيع الأخيرة، رصد فريق الأبحاث في جامعة كليمسون شبكة مؤلفة من مئات الحسابات المزيفة والناطقة باللغة الروسية على «تويتر»، وهي تعمل بالطريقة المعتمدة في الحسابات التي تديرها وكالة أبحاث الإنترنت. تعمد هذه الشبكة دوماً إلى تضخيم أخبار وسائل الإعلام الروسية الحكومية وتُكرر أفكار الكرملين وتهاجم الديمقراطيات الغربية، وتُعتبر هذه الحسابات ذكية وبارعة، وتشمل صور الملف الشخصي فيها خليطاً من المراجع التاريخية والنساء الجذابات والنفحات الفنية والميمات المعاصرة، وقد تُركّز الحسابات على مواضيع محددة لكنها تبقى موالية لبوتين.

يدّعي مستخدمو هذه الحسابات أنهم مواطنون روس عاديون، فيتقاسمون وجهات نظرهم حول المسائل المحلية التي تهم النظام، مثل أزمة كورونا وألكسي نافالني، زعيم المعارضة الذي تعرض للتسمم على يد عملاء أمنيين روس في شهر أغسطس الماضي ثم حُكِم عليه بالسجن ثلاث سنوات تقريباً في مستعمرة عقابية روسية. من الواضح أن الكرملين يريد السيطرة على المواقف المرتبطة بنافالني بأي ثمن، ويبذل المتصيدون التابعون له قصارى جهدهم لتشويه سمعته. في هذا السياق، غرّد أحد الحسابات المزيفة الناطقة باللغة الروسية: «الغرب يحتاج إلى روسيا الضعيفة، على عكس شعبنا. يجب ألا نسمح لنافالني وأصدقائه بتدمير بلدنا. لا تنخدعوا بجميع استفزازاتهم». تُصوّر حسابات أخرى نافالني كدمية بيد الغرب وتشكك في سياساته وميوله الجنسية أيضاً. كذلك، يذهب المتصيدون إلى حد تحذير الأهالي الروس من احتمال أن يقع أولادهم ضحية حملات التضليل الأميركية والمؤيدة لنافالني على شبكة الإنترنت.

ويعتبر هؤلاء المتصيدون نافالني والغربيين أشخاصاً ضعفاء ومقيتين، لكنهم ينسبون في المقابل صفات بطولية إلى بوتين ونظامه. يتّضح هذا الخطاب تحديداً في تقارير المتصيدين عن محاربة روسيا لفيروس «كوفيد 19». تتفاخر هذه الحسابات بشجاعة العاملين الروس في القطاع الصحي، وتشيد بفاعلية اللقاح الروسي «سبوتنيك V»، وتثير ضجة كبرى حين تشتري أي دولة جديدة جرعات منه وتبدي امتنانها لروسيا. ومثلما يصوّر المتصيدون نافالني كشخصية شريرة في عالم السياسة يميلون أيضاً إلى إعطاء صفة الشر إلى شخصية أخرى في عالم الطب: إنها الطبيبة «المجرمة» أناستاسيا فاسيليفا التي انتقدت طريقة تعامل الكرملين مع فيروس كورونا علناً.

ليس مفاجئاً أن تُصمّم روسيا حملات تضليل محلية لاستهداف الرأي العام الداخلي، لكن الحملات المعلوماتية الهجومية التي يطلقها الكرملين ضد جهات خارجية تهدف إلى توجيه الرأي العام الروسي أيضاً. ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» مثلاً أن الاستخبارات الروسية كانت مسؤولة على الأرجح عن إطلاق حملة إلكترونية باللغة الإنكليزية لإضعاف الثقة بلقاحات كورونا الغربية، فزعمت أن مصمّمي تلك اللقاحات يعملون بما يضمن توفير المال والوقت وتترافق ابتكاراتهم مع آثار جانبية خطيرة.

وتهدف الحملات، التي تطلقها روسيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي منذ وقت طويل، إلى نشر معلومات كاذبة عن الولايات المتحدة ودول أخرى في حلف الناتو، وإضعاف ثقة الروس والغرب بالمؤسسات الديمقراطية. أجّجت الحسابات الناطقة باللغة الإنكليزية والمدعومة من الكرملين المخاوف من محاولات التزوير ومظاهر التمييز العنصري خلال الانتخابات الأميركية عام 2020، ونشرت الحسابات الناطقة باللغة الروسية تقارير متواصلة عن أوراق اقتراع أميركية مفقودة، حتى أنها ذهبت إلى حد التكلم عن حالات اختفاء غامضة وغير قانونية غداة أعمال الشغب في مبنى الكابيتول في 6 يناير. غرّد حساب على صلة بشبكة الحسابات المزيفة: «لماذا أصبح مصير المشاركين في اقتحام مبنى الكابيتول مجهولاً بالكامل»؟ من الواضح أن هذه الحملات الخارجية والداخلية تتبادل الدعم وتتكاتف لتصوير الولايات المتحدة كديمقراطية فاشلة ولتخفيف وطأة المشاكل الروسية مقارنة بالاضطرابات الأميركية.

حقيقة حملات التضليل

تتجاهل النقاشات المرتبطة بطريقة فهم حملات التضليل والتعامل معها إقدام الحكام المستبدين من أمثال بوتين على دعم هذه الحملات الكاذبة ضد الغرب لتوجيه الرأي العام المحلي. حتى اليوم، ردّ الأميركيون على حملات التضليل الهجومية التي أطلقتها جهات خارجية عبر توجيه التُهَم للمسؤولين الروس بشكلٍ عابر والاستيلاء على نطاقات المواقع الإلكترونية الإيرانية. تهدف هذه التدابير الضعيفة إلى ردع حملات التأثير الخارجي بناءً على الفرضية القائلة إن الأميركيين هم المستهدفون الأساسيون.

واتخذ الرئيس الأميركي جو بايدن مواقف أكثر صرامة من سلفه، فاعتبر بوتين «قاتلاً» وحشياً «سيدفع ثمن» تدخّله في انتخابات عام 2020. لكن ارتكبت إدارة بايدن غلطة مشابهة لما فعلته إدارة الرئيس دونالد ترامب سابقاً حين افترضت أن هدف الرئيس الروسي الأساسي يتعلق بالتأثير على الرأي العام الأميركي. قد ينجح خطاب بايدن الناري في كبح أي حملات مؤثرة مستقبلاً أو يفشل في ذلك، لكنه قد يؤجج في الوقت نفسه آلية الحملات الدعائية الاستبدادية التي يستعملها بوتين. سبق وردّ الزعيم الروسي على بايدن عبر تحدّيه ودعوته إلى المشاركة في مناظرة مباشرة لتحديد القاتل الحقيقي، وقد اعتبرت وسائل الإعلام الروسية هذه الخطوة في مصلحة بوتين. في غضون ذلك، بدأت شبكات المتصيدين الروس تعمل بدوام إضافي لتضخيم خطاب الكرملين وتصوير بايدن كرجل «مُسنّ ومصاب بالخرف».

قد يتخذ «الثمن» الذي تكلم عنه بايدن شكل عقوبات اقتصادية. وقد تنجح هذه العقوبات في ردع روسيا أكثر من الخطابات النارية وحدها، لكنها قد تُرسّخ أيضاً خطاب الضحية الذي يستعمله بوتين والحكام المستبدون مع شعوبهم. سيكون هذا النهج إذاً سيفاً ذا حدين. على صعيد آخر، ستجازف العقوبات بتصوير بوتين كزعيم قوي وبارع في التكنولوجيا بما يفوق قدراته الحقيقية. في النهاية، تبقى حملات التضليل نوعاً من التكتيكات غير المتكافئة في جوهرها.

للتصدي لحملات التضليل الخارجية، تقضي أفضل طريقة بتحليل العمليات وفضحها، لاسيما تلك التي تستعملها الأنظمة الاستبدادية لاستهداف شعوبها الخاصة، بدل محاولة ردعها. بما أن عدداً كبيراً من حملات التأثير يحصل عبر منصات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يمكن أن يأتي الرد من الحكومات حصراً. اتخذ «تويتر» بعض الخطوات المثيرة للإعجاب حين كشف عن محتويات حملات التضليل المنسّقة والمرتبطة بجهات حكومية. لكن يستطيع «تويتر» ومنصات أخرى، لاسيما فيسبوك وغوغل، بذل جهود إضافية لفضح الأساليب الخبيثة التي تستعملها الأنظمة الاستبدادية للتأثير على شعوبها عبر حملات منسّقة من الأكاذيب المنشورة على مواقع التواصل.

يُعتبر التضليل تكتيكاً استبدادياً يائساً يهدف إلى إخفاء الحقائق وإرباك المعارضة وقمعها. من خلال كشف الحقيقة بشأن حملات التضليل إذاً، يمكن إضعاف نفوذ الجهات التي تستعملها. لكن لتحقيق هذا الهدف، يحتاج بايدن إلى مقاربة مختلفة ومُصمّمة داخلياً بدل تطبيق استراتيجية موحّدة لمعالجة مختلف الملفات. في النهاية.

دارين لينفيل وباتريك وارين