قد يرى البعض أن أوضاع مصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أهم بكثير من إقامة احتفالية "موكب المومياوات الملكية" بانتقالها من المتحف المصري في ميدان التحرير، في وسط القاهرة، إلى المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط، حيث ستستقر المومياوات الملكية في مثواها الأخير، خصوصاً الشكل المبهر الذي جاءت به الاحتفالية، وبما يشير بوضوح إلى تكلفتها المالية الباهظة، ومؤكّد أن لهذا الرأي وجاهته وأهميته.

لكن وسط انكسارات عربية غير مسبوقة، وتبعثر عربي غير محدود، واقتتال عربي ـ عربي داخل القطر العربي الواحد، إضافة إلى عموم الأوضاع الاقتصادية والسياسية البائسة، وسط هذا كله، فليس أقل من شمعة أمل في ظلمة هذا الحاضر المخيفة!

Ad

أنا من جيل عربي كانت أحلامه عريضة، وكانت أمانيه كبيرة، ولقد اندفع نفر كثير بالآلاف ليضحي بحياته من أجل تلك الأحلام والأماني، وكنا لأجيال نردد وطني العربي من المحيط إلى الخليج، وبلاد العرب أوطاني. تساقطت أحلامنا مقترنة بتساقط شعارات مغوية ومدوية، ودارت الأرض دورتها، وتفكك الاتحاد السوفياتي وسقط، واستفردت أميركا بقيادة العالم، وحلت العولمة، ووجد جيلي نفسه مطروحاً خارج التاريخ والجغرافيا، فلم يبقَ شيء من الشعارات الطنانة والكبيرة والمؤثرة، وليس من وطن عربي موحد، بل هي أقطار عربية تصارع باستماتة لتبقى قطراً موحداً، فلا سورية سورية، ولا العراق عراق، ولا لبنان لبنان، ولا اليمن يمن، ولا السودان سودان، ولا ليببا ليبيا، ولا ولا ولا.. لذا فجيلي وشيء من امتداد لأجيال عربية لاحقة يجد نفسه أمام واقع عربي مرير ومهزوم، ويكفي أننا وفي عز انشغال العالم للوقوف في وجه جائحة كورونا، وقفنا متفرجين خارج سياق التاريخ البشري، ننتظر تفضّل أمم الدنيا علينا، ومنحنا لقاحاً يعيننا على الاستمرار في الحياة!

إن إقدام مصر العرب على إقامة احتفالية "موكب المومياوات الملكية"، وبقدر ما كانت حدثاً مصرياً خالصاً، وبكل شيء، فإنه حدث عربي بامتياز، حدث كنا كعرب في أمس الحاجة إليه، خصوصاً أنه جمع بين السياسة والتاريخ والتراث والفن والموسيقى، وبحضور جليّ وعظيم لقدرات الإنسان المصري، بوصفه امتداداً حضارياً، لملوك سادوا الدنيا، وتركوا وراءهم إرثاً إنسانياً لا مثيل له، إرث يشهد على حضارة إنسانية كبيرة ومبهرة، عاشت مزدهرة يوم كانت بقاع الأرض الأخرى تغطّ بالظلمة والظلم والتأخر.

"موكب المومياوات الملكية" هو فرح عَبَرَ كل بيت عربي، وعبر كل نفس عربية توّاقة لأن تجد لمعة ضوءٍ عربية تحيي شيئاً من جفاف أرواحنا! خصوصاً أن الاحتفال جاء بصيغة عصرية لافتة، وكان مقنعاً ليس للمحيط العربي ولكن للمحيط العالمي والإنساني، وأعاد شيئاً من الثقة لنفوسنا بأننا، كأمة عربية، قادرون على مجاراة عناوين اللحظة الإنسانية الراهنة، فما شهدناه من تنظيم ودقة وتخطيط وطلاقة، وأخيراً كحفل موسيقي تقوده عبقرية المايسترو نادر عباسي، الذي استطاع بفكر موسيقي متوقد أن يقود أوركسترا رائعة في توزيع أدوارها وفي انسجام أدائها، لاسيما استخدام التراث المصري الفرعوني العربي الموسيقي، وإعطاء كل آلة حقها من الظهور. وهذا جميعه كان منسجماً مع إخراج متناهي الدقة، سلط الضوء على الحركة في مختلف الأماكن بانسجام قل مثيله.

مصر العروبة، بتجديد متاحفها وبصيانة وترميم بيوتات آثارها إنما أطلقت صوتاً عربياً عالياً يقف إلى جانب الثقافة والفن الإنسانيين، الثقافة والفن بوصفهما نهراً يوازي نهر الحياة، وبوصفهما عوناً للإنسان على احتمال قسوة الواقع واضطرابه! إننا كأمة وبقدر حاجتنا إلى نهضة علمية حضارية، فإننا في أمس الحاجة لروح جديدة تقرأ اللحظة الراهنة وتتعامل معها بما تستحق من فنٍ وثقافة.

لمصر تبريك يليق بهيبتها وعزها، ولنا الفخر بانتمائنا إليها!

طالب الرفاعي