على طول الحدود البرية والبحرية للعراق، يقوم كارتيل متشابك ومعقد بعمليات تهرب جمركي يحول من خلالها الملايين من الدولارات، التي يفترض أن تدخل خزائن الحكومة، إلى جيوب أحزاب وجماعات مسلحة ومسؤولين. ويقول موظف جمارك إن هذه الشبكة المتداخلة "لا توصف. الأمر أسوأ من شريعة الغاب".

في البلد الذي يحتل المرتبة 21 في العالم في سلم الفساد، وفق منظمة الشفافية الدولية غير الحكومية، تعبد البيروقراطية المملة والفساد المزمن طريقا إلى امتصاص موارد الدولة، خصوصا رسوم الجمارك التي تعد المصدر الأهم للعائدات، لكن الحكومة العراقية المركزية لا تتحكم في هذه الموارد التي تتوزع على أحزاب ومجموعات مسلحة غالبيتها مقربة من إيران تتقاسم السطوة على المنافذ الحدودية وتختلس عبرها ما أمكن من الأموال.

Ad

تواطؤ و7 معابر

ويقول وزير المالية العراقي علي علاوي: "هناك نوع من التواطؤ بين مسؤولين وأحزاب سياسية وعصابات ورجال أعمال فاسدين"، مشيرا الى أن "هذا النظام ككل يساهم في نهب الدولة".

ويستورد العراق الغالبية العظمى من بضائعه، ويعتمد في الغالب على إيران وتركيا والصين في كل شيء من الغاز الى الكهرباء والطعام والإلكترونيات.

رسميا، استورد العراق ما قيمته 21 مليار دولار من السلع غير النفطية عام 2019، وفق أحدث البيانات التي قدمتها الحكومة، مرت معظمها عبر 5 معابر رسمية على الحدود مع إيران، التي يبلغ طولها 1600 كيلومتر، وواحد على الحدود مع تركيا الممتدة على قرابة 370 كيلومترا، وعبر ميناء أم قصر العملاق في محافظة البصرة الجنوبية قرب الحدود مع الكويت.

نظام استيراد مواز

لكن نظام الاستيراد العراقي مرهق وعفا عليه الزمن، فقد تحدث تقرير للبنك الدولي عام 2020 عن "تأخيرات لا تنتهي، ورسوم مرتفعة واستغلال". وقال مستورد يتخذ من دولة في الشرق الأوسط مركزا لعمله: "إذا كنت تريد أن تستورد بالطريقة الصحيحة، تنتهي بأن تدفع آلاف الدولارات كغرامة تأخير"، مضيفا أن هذا النظام "مصمم للفشل".

وأدى ذلك، وفق مسؤولين وعمال موانئ ومستوردين ومحللين، إلى نشوء نظام استيراد مواز عبر المعابر البرية وميناء أم قصر، تتولاه أحزاب ومجموعات مسلحة، وتتحقق معظم الأرباح من ميناء أم القصر كونه المنفذ الذي تدخل عبره الكمية الأكبر من البضائع.

وأكد مسؤولون أن غالبية نقاط الدخول تسيطر عليها بشكل غير رسمي فصائل تنتمي الى الحشد الشعبي، مثل "عصائب أهل الحق" و"كتائب حزب الله"، ويعمل أعضاء الأحزاب والفصائل المستفيدة من ذلك أو معارفهم وأقاربهم كوكلاء حدود أو مفتشين وفي الشرطة، ويتقاضون مبالغ مالية من المستوردين الذين يريدون تجاوز الإجراءات الرسمية أو الحصول على حسم على الرسوم.

وأكد عمال ميناء أم قصر ومسؤولون ومحللون أن "منظمة بدر" مثلا، وهو فصيل تأسس بإيران في الثمانينيات، تدير معبر مندلي على الحدود الإيرانية. وأحد الأشخاص الرئيسيين في عجلة الفساد، هو "المخلِص"، أي موظف الجمارك الحكومي الذي غالبا ما يعمل كوسيط للجماعات المسلحة والأحزاب السياسية.

بعد الدفع نقدا مقابل عمليات صغيرة أو عبر تحويلات مصرفية لصفقات أكبر، يقوم المخلص بتزوير الأوراق الرسمية، عبر تحريف نوع السلعة التي يتم استيرادها أو عددها وقيمتها الإجمالية، مما يؤدي إلى خفض قيمة الرسوم الجمركية التي على التجار دفعها، والتي تكون في النهاية أقل بكثير من القيمة الفعلية للبضائع.

غسل أموال

ومن خلال علاقات مع أشخاص نافذين، تتسرب بعض البضائع دون تدقيق على الإطلاق. وفي حالات أخرى، يأخذ التجار تراخيص استيراد وإيصالات مزورة إلى البنك المركزي العراقي الذي يرسل بعد ذلك دفعة بالدولار الأميركي إلى شركة شحن وهمية خارج البلاد، وتسمح هذه المعاملات بغسل الأموال.

وأشار مستورد إلى أنه دفع 30 ألف دولار لموظف جمارك في أم قصر للموافقة على دخول أجهزة كهربائية مستعملة يعتبر استيرادها مخالفة قانونية، مضيفا أنه يدفع بانتظام "رشوة لضابط في شرطة الموانئ" ليبلغه بعمليات التفتيش المفاجئة. ومقابل رسوم إضافية، عرض الضابط عليه "إرسال دوريات لتعطيل خروج بضائع منافسة".

وكونهم يعتبرون المنافذ الحدودية مصدرا غير متناه للمال، يدفع الموظفون العامون أموالا لرؤسائهم لتعيينهم هناك، ويفاخر مسؤول في معبر مندلي بالقول إن المعبر يدر رشاوى تصل إلى عشرة آلاف دولار لأصغر موظف كل يوم.

ويعرب وزير المالية علاوي عن أسفه قائلا: "يتراوح سعر أصغر وظيفة في الجمارك بين 50 إلى 100 ألف دولار، وفي بعض الأحيان ترتفع إلى أضعاف ذلك".

وتستخدم الأحزاب والجماعات المسلحة نفوذها السياسي للاحتفاظ بمواقعها هذه التي تسمح لها بتكديس الأموال، ولا تتوانى عن التهديد باستخدام العنف. وقال موظف كبير في المنافذ الحدودية إنه يتلقى مكالمات منتظمة من أرقام خاصة تهدد بالتعرض لأقاربه بالاسم، في محاولة لترهيبه ودفعه إلى وقف عمليات التفتيش.

فشل إصلاحات الكاظمي

ومنذ الأسابيع الأولى لتوليه رئاسة الوزراء في مايو 2020، جعل مصطفى الكاظمي من إصلاح المعابر الحدودية أولوية قصوى، فمع الانخفاض الشديد بأسعار النفط، بات العراق بأمس الحاجة إلى عائدات إضافية.

وفي رحلات حظيت بتغطية إعلامية واسعة إلى أم قصر ومندلي، تعهد الكاظمي بإرسال قوات جديدة إلى كل منفذ حدودي وتطبيق المداورة في وظائف الجمارك بانتظام لتفكيك دوائر الفساد.

على الورق، يفترض أن يكون ذلك مجديا، وبشكل شبه يومي تفيد هيئة المنافذ الحدودية عن عمليات ضبط بضائع كانت هناك محاولات لتهريبها بدون دفع رسوم، لكن مع انخفاض الواردات عام 2020 بسبب فيروس كورونا، والإعفاءات الجمركية المؤقتة الممنوحة للأدوية والغذاء، كان التأثير الإجمالي لتلك الإجراءات متواضعا.

وقالت هيئة المنافذ الحدودية إن العراق حصد 818 مليون دولار من الرسوم في 2020، وهو مبلغ أعلى بقليل من 768 مليونا في 2019.

ندفع مرتين

ويعتبر مستوردون ومخلصون ومسؤولون هذه الإجراءات ذرا للرماد في العيون، وقال مستوردون إنه في حين أن بعضهم يدفع الآن الرسوم الحكومية، فإنهم ما زالوا يدفعون في الوقت نفسه الى المخلصين للتأكد من أن البضائع لن يتم تأخيرها بشكل تعسفي.

وقال رجل أعمال عربي يقوم بتصدير بضائع الى العراق منذ أكثر من عقد "في النهاية، ندفع مرتين". في غضون ذلك ، لم يتأثر أصحاب العلاقات الجيدة بالتدابير الجديدة. وقال مستورد عراقي: "لم يتغير شيء. يمكنك إدخال أسلحة أو أي شيء آخر تريده عبر مندلي بدون رخصة استيراد وبدون دفع رسوم جمركية".

واعترف المسؤول الحدودي الكبير بأن بعض عمليات نشر إضافية لعناصر أمن تم التعهد بها، لم تحدث قط.

ويقول المستوردون والمسؤولون إن السبب الرئيسي في فشل تلك التدابير هو أن "تناوب الموظفين لم يشمل عنصرا حاسما في آلة الفساد: المخلص".

وتوقع مسؤولون أن يتجنب التجار بشكل متزايد المعابر التي تديرها الدولة، ويعتمدوا إما على التهريب أو الاستيراد بشكل غير رسمي عبر كردستان شمالا، محذرين من أن تفكيك الشبكة بالكامل سيؤدي إلى عنف قد يكون الكاظمي غير مستعد له. وقال ضابط المخابرات: "هذه المصالح تساوي ملايين الدولارات. رصيف واحد في أم قصر يعادل ميزانية دولة"، مضيفا: "لن يتنازلوا بسهولة".

تفجيران يستهدفان رتلين لـ «لتحالف»

ذكرت الشرطة العراقية أنّ هجومين تعرضت لهما قوافل تنقل معدات لمصلحة "التحالف الدولي" بواسطة عبوات ناسفة وقعا، أمس، تسبب أحدهما باحتراق شاحنة معدات دون خسائر بشرية، وذلك في أحدث اعتداءات تتعرض لها مصالح التكتل الدولي الذي تقوده واشنطن في العراق.

وأوضح مسؤول في وزارة الداخلية أن الاعتداء الأول استهدف رتلا في محافظة بابل في حين استهدف الآخر رتلا في محافظة الديوانية جنوبي البلاد، مضيفا أن التفجير الثاني تسبب في احتراق شاحنة محملة بالبضائع.

وبثت منصة تابعة لـ "كتائب حزب الله" العراقية المرتبطة بطهران، صورا تظهر احتراق الشاحنة جراء الاعتداء الذي يعد الأحدث ضمن سلسلة هجمات تستهدف "التحالف" والمصالح الأميركية ويعتقد أن الفصائل المسلحة المدعومة من إيران تشنها.

وأمس الأول، قال المتحدث باسم "الكتائب"، محمد محيي، إنّ وجود القوات الأجنبية "يشكّل خطراً على الأمن القومي العراقي". ووصف محيي، الذين يريدون منح القوات الأجنبية الشرعية بـ"العملاء والخونة"، قبيل انطلاق أول جولة من الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد بعهد الرئيس الأميركي جو بايدن.