في خضم السيل الهائل من الشتائم والانحطاط الأخلاقي المنتشر في وسائل التواصل استوقفتني حالتان لابد من تأملهما، خصوصاً في هذه الأيام، حيث تدور رحى المطالبة بالمزيد من الحريات.

الأولى، هجوم على أستاذ جامعي عبر عن رأي علمي اقتصادي بشأن تأجيل أقساط البنوك، حيث انهمرت عليه وعلى أبيه ألفاظ التجريح والطعن في الكرامة، رغم أنه لم يعبر إلا عن رأي علمي بدهي، والحالة الثانية كانت عن أستاذة جامعية لم تبدِ أي رأي سياسي أو اقتصادي ولكن كل ذنبها أنها والدة لرئيس مجلس الأمة الحالي.

Ad

وهكذا يتم إقحام الآباء والأمهات في هذه الحرب الإعلامية بأسلوب السخرية والفحش والقبح من القول التي طالت حتى القضاة بدلاً من النقاش العلمي الرصين مع أصحاب ذلك الرأي والموقف، وكم هو مؤسف أن تكون الحكومة والتشريعات الحازمة من المجلس هي الغائب الأساسي في هذه الحرب.

الحرية يا سادة هي حرية التعبير عن الرأي لا حرية إباحة الإساءة والمساس بالكرامة وحماية فاعليها، ولا أفهم كيف تحول مفهوم الحرية من التعبير الهادف الرزين إلى الدفاع عن المسيئين وحريتهم في التطاول والإساءة وحماية المتطاولين من المساءلة وإلغاء النصوص التي تحمي كرامات الناس من الإساءة والحط من الكرامة.

الشريعة الإسلامية منعت الإساءة بكل صورها مثل الكذب على الأشخاص والتقول عليهم أو سبهم وشتمهم، فقد قال تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً"، وقال سبحانه في تحريم السخرية والتنابز: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون"، وقال صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، وقال: "من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال"، أي عصارة وصديد النار، وقال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم".

وأقام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حد التعزير على من يتطاول ويسيء على الناس، مثل تعزيره الشاعر الحطيئة عندما هجا الصحابي الزبرقان بن بدر، وجاء في الموسوعة الفقهية: "وإذا سب المسلم ففيه التعزير".

والأدلة والأمثلة كثيرة، وكم يسوءني انتشار هذه الأساليب المحرمة في وسائل التواصل في بلدنا العزيز، وكم هو محزن أن يطالب بعض الكتّاب والنواب بحماية ممارسيها بإلغاء التشريعات التي تحمي الناس من إساءاتهم.

لذلك فإني أرى أن من أهم واجبات أعضاء مجلس الأمة حماية مجتمعنا من انتشار آفات اللسان خصوصاً بين الشباب، وتحصينهم من البغضاء التي وصفها، صلى الله عليه وسلم، بأنها: "الحالقة، ولا أقول إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"، (تخريج مشكاة المصابيح)، وليعلم النواب أن من واجبهم تشريع التعزيرات المناسبة على من يمارس هذه الإساءات، كما أن عليهم توجيه الشباب للنقد البناء وبالقول الحسن، كما قال تعالى: "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً"، فالكلمة الطيبة هي التي تؤدي الى تغيير الرأي والموقف، وأيضاً على المشرعين إرساء ثقافة مؤداها أن مكافحة الفساد تكون بنشر الأدلة بشجاعة وتوصيلها إلى هيئات النزاهة والقضاء لا بالسباب والشتائم التي تفرق المجتمع وتزرع الأحقاد.

لذلك نكرر النصيحة إلى الإخوة في لجنة التعليم والإعلام بمجلس الأمة بعدم إلغاء النصوص التي تمنع الإساءة إلى كرامات الأشخاص أو حياتهم الخاصة أو أسرارهم الشخصية أو نسبة أفعال أو أقوال غير صحية لهم من قوانين المطبوعات والمرئي والمسموع، خصوصاً أن هذه القوانين اكتفت بالغرامات بدلاً من السجن، أما القول بوجود نصوص مشابهة لهذه الفقرات في قوانين أخرى مثل قانون الجزاء فإنه ليس سبباً لإلغاء هذه الفقرات من قانون المطبوعات لأن الإبقاء عليها أسلوب تشريعي محمود يمكّن القاضي من الأخذ بالقانون الأنسب للعقوبة أو البراءة، في حين يؤدي إلغاؤها من قوانين المطبوعات إلى خلافات قانونية كثيرة نحن في غنى عنها.

أحمد باقر