كثيرة هي النظريات الغربية التي تم استيرادها طوعاً أو تم زرعها عنوة في بلاد العرب والمسلمين، فانقسمت الآراء بشأنها بين مؤيد متعصب لفكر الحداثة والانفتاح على الآخرين، ومعارض رافض للفكر الغربي، وكل ما يأتي من صوبه، وبين ساكت عنها من خلال البحث عن جذور لها في الفقه الإسلامي أو نظير يشبهها في الأعراف والتقاليد العربية والشرقية.

ينطبق ذلك- مثالاً لا حصراً- على النظريات والمبادئ المتصلة بالديمقراطية والانتخاب وما يقابلها من نظام شورى في الإسلام، كما ينطبق ذلك على محاولة «أسلمة» أو «تشريق» و«تعريب» النظريات الاقتصادية الاشتراكية والليبرالية على حد سواء، كما تنبري في هذا السياق نظرية «العقد الاجتماعي» المؤسسة في الفكر الغربي لمفهوم الدولة الحديثة، والتي تلقفها العقل العربي، كما ثبت من التجربة والبرهان والنتائج، ليس من باب فهم أبعادها الحقيقية وتطبيقها بما ينسجم مع متطلبات مكوناتنا الحضارية وخصائصنا الاجتماعية، بل تم نشرها في الثقافة العربية تلقيناً، وتم التعامل معها- في كثير من المحافل- بالتقليل من أهميتها من خلال التذكير- تفاخراً لا تطبيقاً- بـ«ميثاق صحيفة المدينة» الذي جمع في حضن «الأمة الإسلامية» بين الأنصار والمهاجرين وأسس في نطاق «دولة الإسلام المدنية» لمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغيرهم من أتباع الأديان الأخرى كاليهود والنصارى.

Ad

ليس المقصود فيما سبق جلد الذات، ولا يراد منه تهميش ما يكتنزه التراث العربي والإسلامي من ثروات فكرية وعقائدية، بل هي دعوة لإعمال العقل لا العاطفة في فهم وتطوير وتطبيق كل ما ورثناه من أجدادنا من علوم ومعارف وقيم وأفكار، وكل ما ورد إلينا من خلف الحدود نتيجة لتفاعل الثقافات واختلاط الحضارات أو فرض علينا وفق نظريات «المؤامرة» من قبل «مستعمر» حاقد أو «مستشرق» جاسوس!

ببسيط العبارة، تتجلى نظرية العقد الاجتماعي في أن الناس كانوا يعيشون في بدائية قائمة على النزاعات والحروب والترحال بحثاً عن أسباب المحيا والحياة، مما دعاهم الى التفكير والعمل على إنشاء كيان ينظم علاقاتهم الاجتماعية ويتولى الدفاع عنهم بوجه الأخطار الطبيعية أو البشرية، وفي سبيل ذلك تنازل كل فرد عن بعض حقوقه الخاصة وشيء من مصالحه الفردية لكي يلتزم أمام الآخرين ببعض الواجبات التي تنظمها القوانين المتفق عليها وتوجب فرضها دولة راعية وحاكم عادل وكفء.

بدأت الأفكار المؤسسة لنظرية «العقد الاجتماعي» بالتبلور من خلال الكتابات المرتبطة بالفلسفة الإغريقية ومن ثم الرومانية، حيث أفرد كل من أفلاطون وسقراط حيزاً مهماً للأفكار المرتبطة بالـ«جمهورية الفاضلة» ومبادئ العدالة الاجتماعية، ومن ثم تطورت النظرية مع عدد من فلاسفة القرن السادس عشر، الى أن برزت كنظرية قانونية، سياسية واجتماعية متكاملة من خلال مؤلفات كل من «توماس هوب» و«جون لوك» و«جان جاك روسو»، لتصبح لاحقاً مرتكزاً فكرياً ومرشداً ملهماً لكثير من النضالات والثورات التغييرية كالثورة الفرنسية عام 1789 وغيرها من الحركات التقدمية في أوروبا والعالم، ولا ننسى في هذا الإطار ذكر أحد المفكرين العرب والمسلمين العلامة «ابن خلدون» الذي اعتبر أن «البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره».

وهكذا كان «العقد الاجتماعي»، لدى كل المجتمعات الشرقية والغربية، خلاصاً ناجحاً من أهوال الزعزعات الداخلية الخارجية ودرعاً واقية من النزاعات الفردية والجماعية، وشكل رابطاً وثيقاً بين بشر استسلموا طوعاً لفكرة «روح الجماعة» التي تحترم الخصوصية الفردية فتقويها، وبنوا «دولة قانون ومؤسسات» تحقق لكل منهم عيشة كريمة ومستقرة.

مجتمعاتنا -للأسف- تطغى فيها النزعات الفردية على المصالح الجماعية، ويُنصر فيها الأخ الظالم لابن عمه المظلوم، وتتخبطها كل أنواع الصراعات، وتنهكها جموع الانقسامات، وتبدد قواها كل أشكال التمييز القبلي والديني والعرقي والاثني والطبقي.

ما أحوجنا- وحالنا في مثل هذا السوء من المحيط الى الخليج- أن نعيد قراءة «ميثاق صحيفة المدينة» بعقل وإيمان وأن نطبقه برشد واتزان، وما أسعدنا لو فهمنا وطبقنا بعقل جماعي نظرية «العقد الاجتماعي»، فنتلمس من خلالها حقيقة التعاقد الذي يؤسس لعيش «واحد لا مشترك»، ونقرّ من خلالها بواجب التنازل عن أنانيتنا الفردية ومصالحنا الشخصية غير المحقة ونستسلم بإرادتنا لسيادة الدولة وسلطة القانون وللمصلحة العامة الشاملة.

رومانسية الشعارات وجدلية النظريات وروحانية المبادئ والقيم لا يمكن أن نبني من خلالها أوطاننا ومجتمعاتنا ما لم نسارع الى إعادة قراءتها بهدوء ورويّة وفهمها بعقلانية بهدف تطبيقها بحكمة وموضوعية.

د. بلال عقل الصنديد