يمكن وصف ما يحصل بـ«السياسة القمرية»! قبل أيام، وقّعت وكالة الفضاء الروسية «روسكوسموس» على اتفاق مع إدارة الفضاء الوطنية الصينية لإنشاء «محطة قمرية علمية دولية» تستطيع التواصل مع جميع الدول والشركاء الدوليين المهتمين بهذا المشروع. كان هذا الحدث إثباتاً دامغاً على أنّ موسكو تُخطط لمستقبلها الفضائي مع الصين بدل الولايات المتحدة، مما يؤكد على توسّع اصطفافها الاستراتيجي مع بكين.

يأتي هذا التطور بعد ربع قرن من التعاون الأميركي الروسي الفضائي الذي أطلقه معسكر كان يحلم بحصول مصالحة بين موسكو وواشنطن بعد حقبة الحرب الباردة، فقد ارتبط الحدث المحوري الذي مهّد لهذا التطور ببناء وتشغيل «محطة الفضاء الدولية».

Ad

يشكّل الاتفاق الأخير أيضاً رفضاً واضحاً للدعوة التي وجهتها وكالة «ناسا» إلى روسيا كي تنضم إلى مشروع «أرتميس» الذي سُمّي تيمناً بشقيقه «أبولو» التوءم ويهدف إلى إيصال أول امرأة ورجل آخر إلى القمر بحلول عام 2024، وبالتعاون مع شركاء دوليين آخرين، يستطيع مشروع «أرتميس» أن يستكشف سطح القمر بدرجة أعمق من أي وقت مضى عبر استعمال تقنيات متقدمة.

في السنة الماضية، قال ديمتري روغوزين، مدير عام وكالة «روسكوسموس»، ساخراً: «هم لا يعتبرون برنامجهم دولياً بل مشابهاً لحلف الناتو»، وكان روغوزين قد أطلق مواقف ساخرة أخرى في بروكسل سابقاً حين كان السفير الروسي في الناتو فقال: «نحن لا نهتم بالمشاركة في هذا المشروع».

بدل التفكير بمعنى هذه المواقف كلها بالنسبة إلى مستقبل الفضاء، من الأفضل على الأرجح أن تفكر إدارة بايدن بتأثير هذا التطور الأخير على مقاربتها الناشئة تجاه روسيا بقيادة فلاديمير بوتين.

لا يحمل الرئيس الأميركي جو بايدن أي أوهام بشأن بوتين، وقد أثبت أنه مستعد للتواصل مع روسيا حين تصبّ هذه الخطوة في مصلحة الولايات المتحدة أو فرض العقوبات عليها عند الحاجة، فقد ارتبط أول انتصار له في مجال السياسة الخارجية بعقد اتفاق مع بوتين لتمديد معاهدة «ستارت الجديدة»، وعكست هذه الخطوة اختلاف توجّهه عن مقاربة الرئيس السابق دونالد ترامب في مجال الحد من التسلح.

بغض النظر عن المسار الذي يختاره بايدن، من المنطقي ألا يضاعف أخطاء الإدارات السابقة نتيجة مفاهيم مغلوطة عن تراجع روسيا أو الإفراط في التركيز على بكين.

كتب مايكل ماكفول، السفير الأميركي في روسيا خلال عهد الرئيس السابق باراك أوباما، في صحيفة «فورين أفيرز»: «لا يملك بوتين النفوذ الذي تمتع به أسلافه السوفيات خلال السبعينيات أو يتمتع به الرئيس الصيني شي جين بينغ اليوم، لكن ذلك لا يعني أن روسيا أصبحت دولة ضعيفة ومتصدعة بقدر ما كانت عليه خلال التسعينيات. لقد نهض هذا البلد من جديد، رغم نزعاته الديمغرافية السلبية وتراجع إصلاحات السوق المحلية مقارنةً بمكانة روسيا كواحدة من أقوى دول العالم، حتى أن قوة روسيا العسكرية والسيبرانية والاقتصادية والأيديولوجية تفوق ما يتوقعه الأميركيون».

يذكر ماكفول أيضاً أن روسيا طوّرت أسلحتها النووية، على عكس الولايات المتحدة، وعمدت إلى تحديث جيشها التقليدي، حيث يحتل اقتصاد روسيا المرتبة الحادية عشرة عالمياً، ويفوق ناتجها المحلي الإجمالي للفرد الواحد الناتج الصيني، ويضيف ماكفول: «قام بوتين أيضاً باستثمارات كبرى في الأسلحة الفضائية والأوساط الاستخبارية والقدرات السيبرانية، وقد عرفت الولايات المتحدة بها بأصعب الطرق» (في إشارةٍ إلى الهجوم السيبراني الضخم الذي انكشف في وقتٍ سابق من هذه السنة بعدما اخترقت روسيا أجزاءً متعددة من مواقع الحكومة الأميركية وآلاف المنظمات الأخرى).

في الوقت نفسه، بدأ بوتين يتخلى عن سياسة ضبط النفس في تعامله مع خصومه المحليين، ويتحدى القوى الغربية، ويبدي استعداده لأخذ المجازفات لتحقيق هدف مزدوج: استرجاع مكانة روسيا ونفوذها مقابل إضعاف الولايات المتحدة.

طرح هنري فوي، رئيس مكتب صحيفة «فاينانشل تايمز» في موسكو، حديثاً مقالة مهمة حول الوضع الروسي الراهن بعنوان «فلاديمير بوتين والفصل الوحشي الثالث».

كتب فوي في مقالته: «بعد عشرين سنة على صمود عهد بوتين بفضل الازدهار الاقتصادي أولاً والنزعة الوطنية العدائية ثانياً، انتقلت حكومته الآن إلى أسلوب القمع كأداة محورية للحفاظ على السلطة».

أدرك العالم هذا التبدل بكل وضوح بعد تسميم المعارِض ألكسي نافالني ثم اعتقاله فور عودته إلى روسيا غداة تعافيه في مستشفى ألماني، كما يتكلم فوي أيضاً عن تمرير «سيل من القوانين» في أواخر السنة الماضية لقمع المعارضين الحاليين والمستقبليين. اتضحت الخطوة الأخيرة يوم السبت الماضي، حين اعتقلت السلطات الروسية 200 سياسي محلي، منهم شخصيات مرموقة في المعارضة، خلال تحرك احتجاجي في موسكو.

يعتبر البعض توسّع حملة بوتين الوحشية ضد المعارضين والاعتقالات الجماعية، تزامناً مع زيادة الاحتجاجات الداعمة لنافالني، مؤشراً على ضعف بوتين المتزايد، لكن آخرين يعتبرون تصرفاته منذ الاستيلاء على شبه جزيرة القرم في عام 2014 وصولاً إلى أحدث اعتداءات سيبرانية، دليلاً على قدراته المتوسّعة، ويحذر هذا الفريق من إقدامه على خطوات فادحة أخرى في المرحلة المقبلة.

هذان الرأيان صائبان: أصبح بوتين أكثر ضعفاً وزادت قوته في الوقت نفسه، فيُعتبر قمعه المحلي وقوته الخارجية وجهَين لعملة واحدة، وفي المقابل تمنع الأفكار المغلوطة التي تحملها واشنطن عن تراجع روسيا تطبيق الاستراتيجية المناسبة، فما العمل في هذه الحالة؟

حصل جدل غير مألوف بين المسؤولين في «المجلس الأطلسي» هذا الأسبوع بشأن المسار الصائب للتعامل مع روسيا بقيادة بوتين،

وركّزت الاقتراحات المطروحة على أهمية موضوع حقوق الإنسان لتحديد السياسة الأميركية تجاه موسكو.

بغض النظر عن وجهات النظر المقترحة، يصعب أن ينكر أحد أن توسّع الروابط الاستراتيجية بين روسيا والصين، وهو واقع أثبته الاتفاق على المشروع الفضائي المشترك هذا الأسبوع، يشكّل جزءاً بسيطاً من أدلة متزايدة مفادها أن المقاربة الغربية تجاه موسكو في آخر عشرين سنة فشلت في تحقيق النتائج المرجوة.

يجب أن تراجع إدارة بايدن استراتيجيتها تجاه روسيا بشكلٍ عاجل، بدءاً من الاعتراف بأن المفاهيم المغلوطة حول التراجع الروسي طغت على ضرورة وضع مقاربة استراتيجية أكثر فاعلية، ويجب أن تجمع هذه المقاربة بين عناصر جاذبة لتكثيف التواصل وأشكال متطورة من الاحتواء بالتعاون مع الشركاء، ويُفترض أن ترتكز الخطة المرتقبة على عاملَي الصبر وعقد الشراكات.

ثمة حاجة إلى تحديد السياق الاستراتيجي لمجموعة الخطوات والسياسات المرتبطة بروسيا: أنظمة جديدة أو قديمة لفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، رد محتمل على أحدث الاعتداءات السيبرانية، طرق أكثر فاعلية لمكافحة حملات التضليل، رد مبتكر على التعاون الاستراتيجي المتزايد بين الصين وروسيا.

لا يمكن أن تصبح المبالغة في ردود الأفعال سياسة فاعلة في أي ظرف، لكنّ الاستخفاف بروسيا يطرح أكبر المخاطر في الوقت الراهن.

يجب أن يتمحور الهدف الأساسي على المدى الطويل بالطموحات التي يحملها المسؤولون في وكالة «ناسا» منذ 25 سنة، أي تحقيق المصالحة والتعاون بين الولايات المتحدة وروسيا، وفي المرحلة اللاحقة، يُفترض أن يوضع هذا الهدف في سياق كيان أوروبي سليم وحرّ وسلمي، حيث تجد روسيا مكانتها الصحيحة، فهو الحلم الذي عبّر عنه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب قبل أشهر قليلة من سقوط جدار برلين.

بغض النظر عن رغبات بوتين الشخصية، يصعب أن نصدّق أن الروس لن يفضلوا هذه النتيجة على الخيارات الأخرى، حتى لو كان الخيار الثاني يتعلق بمشروع صيني روسي مشترك للهبوط على القمر!

فريدريك كامب – المجلس الأطلسي