ينذر تقريران جديدان حول سلامة الديمقراطية العالمية بأن المسار السياسي في الهند يتخذ وجهة سيئة، وللمرة الأولى منذ أواخر التسعينيات، خفّضت منظمة «فريدم هاوس» غير الحكومية والداعمة للديمقراطية مرتبة الهند من دولة «حرّة» إلى «حرّة جزئياً» نتيجة تراجع مستوى حماية الحريات المدنية هناك، ويذكر تقرير آخر أصدره «معهد أنواع الديمقراطية» أن الهند لم تعد «ديمقراطية انتخابية».

لا يتعلق التراجع الديمقراطي في الهند بطبيعة الانتخابات الهندية التي تُعتبر حرّة ونزيهة بشكل عام، بل بانكماش المساحة الديمقراطية بين هذه الاستحقاقات، إذ يتمحور معظم التغيير الحاصل اليوم حول شخصية رئيس الوزراء الحالي، إذ يرتكز تفوقه في الانتخابات على طموحه المعلن بتغيير السياسات الاعتيادية، ورغم تعدد السجالات الحاصلة، لا تزال شعبية رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي هائلة ولم يخفّ تأثيره على أفكار الناس، لكنّ تداعيات هذا الوضع على الديمقراطية الهندية خطيرة.

Ad

ظاهرة مودي

تتعدد العوامل التي تفسّر شعبية ناريندرا مودي الفريدة من نوعها، ففي المقام الأول، يجسّد مودي ردة فعل الأغلبية الهندوسية على سياسات علمانية غير متماسكة استمرت عقوداً طويلة، وحين رحل البريطانيون من الهند في 1947، كان السياسيون العلمانيون والقوميون الهندسيون المتعصبون يخوضون معركة أيديولوجية لتحديد علاقة الدولة المستقبلية بالدين، وفاز العلمانيون، بمن في ذلك رئيس وزراء الهند الأول جواهر لال نهرو، وحددت رؤية هذا المعسكر ركيزة جمهورية الهند الجديدة.

أيّد العلمانيون في الهند مقاربة تسمح للدولة بالبقاء على مسافة من الشؤون الدينية، إذ تستطيع الحكومة أن تتدخل في مسائل الإيمان، مثل مساعدة المؤسسات التعليمية التي تديرها جهات دينية أو دعم رحلات الحج، لكن لا يمكن فعل ذلك إلا بطريقة منصفة، ومع مرور الوقت، اعتبر أعضاء «حزب المؤتمر» الهندي وأحزاب علمانية أخرى أنفسهم حكّاماً محايدين مع أنهم كانوا يتعاملون مع الجماعات المتدينة وكأنها «بنوك انتخابية»، في إشارة إلى كتل الناخبين المتشابهة التي يتكل عليها السياسيون للفوز في الاستحقاقات الانتخابية.

وصل مودي إلى السلطة بعد رفضه هذا المسار السياسي، وبناءً على قناعة راسخة مفادها أن النظام العلماني أضعف الهندوس في الهند (وفق إحصاء من العالم 2011، يشكّل الهندوس نحو 80% من سكان الهند)، فأصبحوا في موقع الأقلية في بلدهم، حيث استخف جزء كبير من الهنود، لا سيما القوميون الهندوس، بالعلمانية واعتبروها ظاهرة كاذبة واستعارة ملطّفة لما يسمّونه «استرضاء الأقلية»، أي المفهوم القائل إن النُخَب السياسية تتملق المسلمين والسيخ والمسيحيين وأقليات دينية أخرى على حساب الأغلبية في المجتمع.

يتطلع عدد كبير من الهنود إلى مودي باعتباره الزعيم القادر على التحكم في السلطة بعد عقود من حُكم الائتلاف المثير للانقسام، فخلال السبعينيات والثمانينيات، تفككت الهيمنة السياسية التي كان يتمتع بها «حزب المؤتمر» تدريجاً، فنشأت حقبة جديدة حيث تتكل الحكومات عموماً على تحالفات هشة بين الأحزاب المتنافسة، وأدى التشرذم السياسي، تزامناً مع التحرر الاقتصادي وتوسيع هامش تفويض السلطة لمصلحة عواصم الولايات، إلى ترسيخ القناعة القائلة إن نيو دلهي لم تكن تفرض سيطرة كاملة على البلد، ونتيجةً لذلك، زادت صعوبة إحداث تغيير سياسي واسع انطلاقاً من السلطة المركزية، واستعمل مودي التفويض التاريخي الذي حصل عليه بفضل الأغلبية القوية التي يملكها حزبه في البرلمان لتجديد مركزية السلطة، وفي مسائل متنوعة تتراوح بين الضرائب والزراعة والانتخابات، أيّد مودي مفهوم «أمة واحدة، هند واحدة» كحل للانقسام في الهند.

ويطرح مودي رؤية مشابهة مبنية على القيادة القوية والهادفة في سياسته الخارجية، فطوال عقود، اعتبرت الهند نفسها لاعبة عالمية كبيرة لكن غير مهمة بالضرورة، ونادراً ما كانت السياسة الخارجية تحتل أهمية كبرى على مستوى الانتخابات لأن الناس يهتمون أولاً بمشاكلهم اليومية، مثل فرص العمل والتضخم والرعاية الاجتماعية، لكن الناخبين دعموا مزاعم مودي المرتبطة بقدرته على وضع الهند أخيراً على خريطة العالم، وأعلن مودي أن الهند تستطيع أن تكون لاعبة كبيرة ومهمة في آن وسط عالم معاصر ومتعدد الأقطاب، وفي مسائل أخرى، منح مودي دوراً متوسعاً للهند على الساحة العالمية، بدءاً من احتواء الصين وصولاً إلى محاربة التغير المناخي وتسليم لقاحات كورونا إلى دول أخرى، ويتّضح هذا الوضع المتبدّل في القمة التي عقدها قادة دول التحالف الرباعي (أستراليا، الهند، اليابان، الولايات المتحدة) الأسبوع الماضي، حيث عبّرت دول آسيا والمحيط الهادئ عن تصميمها على التعاون في ما بينها لمجابهة النزعة الصينية الانتقامية.

عبادة الزعيم

شهد المحور المركزي للسياسة الشعبية في الهند تحولاً بارزاً خلال عهد مودي، وفي هذا السياق، يقول العالِم السياسي نيلانجان سيركار إن مودي خاض حملته الانتخابية في 2014 على أساس إرجاع الاقتصاد الهندي إلى مساره الصحيح، لكن في 2019، ارتكزت حملة «حزب بهاراتيا جاناتا» على تصوير مودي كزعيم قومي صارم، وانطلاقاً من هذا المنطق، لم يضطر الناخبون لتقييم مودي بحسب سجله في السلطة، بل دفعتهم قوة شخصيته إلى التطلع نحو المستقبل وتخيّل التغيير الذي يستطيع إحداثه.

ما كانت هيمنة «حزب بهاراتيا جاناتا» لتصبح شاملة لهذه الدرجة لو لم يكن مودي في السلطة، إذ يسيطر مودي على الأفكار السياسية السائدة في البلد بدرجة استثنائية لأن قصة حياته تشكّل مصدر إلهام لشرائح واسعة من الهنود، كما أن الكاريزما التي يتمتع بها تجعله يقنع الناس بقدرته على إحداث التغيير المنشود، ووفق المواصفات الأميركية، يجمع مودي إذاً بين حدس بيل كلينتون السياسي ومهارات باراك أوباما الخطابية.

نجح مودي في ملء المساحة السياسية كما لم يفعل الكثيرون من قبله، حيث تترافق جميع تحركاته السياسية مع خطوات مفصّلة، بدءاً من كسب الأصوات خلال انتخابات بلدية بسيطة وصولاً إلى إنقاذ البلد من أسوار «القلعة الحمراء» في نيو دلهي، كذلك، تروق مقاربة مودي الصارمة للمواطنين المستائين من الطبقة السياسية الغائبة عن مشاكل الناس. مهّدت شعبية مودي الشخصية لنشوء أسلوب سياسي جديد حيث يبرر الدعم الشعبي أي وسيلة يعتمدها الزعيم لتحقيق أهدافه.

ستجد الولايات المتحدة وقوى أخرى صعوبة في توسيع هامش الديمقراطية في الهند خلال عهد مودي، بعيداً عن تضرر المعايير الديمقراطية في الولايات المتحدة نفسها، لطالما كانت قدرة القوى الخارجية على التأثير بسياسات الهند الداخلية محدودة، فخلال عهد دونالد ترامب، تراجعت أهمية حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية في السياسة الخارجية الأميركية: في فبراير 2020، زار ترامب الهند وحضر اجتماعات ودّية مع مودي في نيو دلهي رغم اندلاع أعمال شغب طائفية مريعة على بُعد بضعة أميال، فأعلنت إدارة بايدن من جهتها تغيير المسار المعتمد، إذ ينطلق «التوجيه الاستراتيجي للأمن القومي» الذي طرحه بايدن في مارس 2021 من الفرضية القائلة إن تبنّي الديمقراطية محلياً وخارجياً عامل أساسي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية، لكن من المستبعد أن تبدي إدارة بايدن القيم المشتركة على مصلحتها الجوهرية التي تقضي بإشراك الهند في خطتها الاستراتيجية الواسعة ضد الصين. تشكّل الهند ركيزة للاستراتيجية الأميركية في آسيا ولن ترغب الإدارة الجديدة حتماً في تعقيد هذه العلاقة لأي سبب.

يجب أن يُعاد إحياء الديمقراطية في الهند من الداخل إذاً، لكنّ نقاط الضعف التي تشوب المعارضة السياسية الهندية كثيرة، فقد أصبح «حزب المؤتمر» أضعف مما كان عليه بسبب أزماته المتلاحقة على مستوى القيادة والإيديولوجيا والتنظيم، فقد خسر وريث «حزب المؤتمر»، راهول غاندي، ثقة عدد كبير من مناصريه، فبعد إيصال الحزب إلى هزيمتَين في الانتخابات الوطنية، تدهورت مصداقية غاندي السياسية بدرجة كبيرة، ولم يعد الناخبون العاديون متأكدين من مواقف الحزب، وفي الوقت نفسه، توشك العلمانية على الانهيار خصوصا أن مودي أعاد إحياء الروح الشعبية التقليدية في حزبه وحصد دعم الجماعات المؤيدة للرعاية الاجتماعية. كذلك، تراجع تنظيم «حزب المؤتمر» بسبب استنزاف موارده المالية واستقال عدد من قادة الدرجة الثانية وانتقل معظمهم إلى «حزب بهاراتيا جاناتا».

يواجه «حزب بهاراتيا جاناتا» عدداً من الخصوم المحليين الموثوق فيهم على مستوى الولايات، حيث خسر انتخابات مهمة في السنوات الأخيرة، وبدأت الحملة الانتخابية في الوقت الراهن استعداداً للانتخابات الإقليمية في خمس ولايات، وقد يخسر «حزب بهاراتيا جاناتا» وحلفاؤه في عدد من هذه الاستحقاقات، لكن لن تُهدد هذه الانتكاسات سطوة الحزب على السلطة، وعلى الساحة السياسية الوطنية، فشلت المعارضة في فهم سبب تفوق مودي حتى الآن، فهو زعيم شعبي نجح في بلوغ أعلى مراتب السلطة بناءً على قدراته الخاصة ومن دون مساعدة عائلة لها معارف سياسية، بل إنه استغل طموحات بلد مضطرب يتوق إلى التغيير ويشعر بالاستياء من التقاليد السياسية، حتى إنه ألقى خطابات مشحونة بالقومية الشرسة لنشر قناعات جديدة، فلطالما ينكر خصومه الواقع حول نواقصهم وقوة مودي الهائلة، إذ سيستمر تفوقه السياسي ولن تتوقف الأسئلة المرتبطة بمصير الديمقراطية الهندية.

ميلان فايشناف – فورين أفيرز