لي صديق، كان يعمل في سنوات السبعينيات بإحدى سفاراتنا في القارة الإفريقية، والجميع يشهدون له بالصدق والأخلاق والنزاهة، فضلاً عن مبدأ المساعدة وتقديم الخدمات للآخرين، سواء كان على معرفة بهم أو لأي ناس آخرين؛ وفي أحد الأيام بينما كان يؤدي عمله اليومي المعتاد في السفارة، طلب أحد رجال الأعمال الإفريقيين مقابلة صديقنا الدبلوماسي، وفي الحال تسنى له ذلك، وأثناء المقابلة قال الإفريقي إنه تاجر ويمتلك عدداً من المناجم، التي يستخرج منها الذهب، وفي الحال فتح الشنطة التي كان يحملها مخرجاً منها قالباً يزن ١٠ كيلوغرامات من الذهب الخالص، وأضاف أن لديه كميات أخرى كبيرة، ولكن المشكلة أنه لا يستطيع بيعها في دولته، نظراً لتغير نظام الحكم، وستقوم دولته بمصادرة مناجم استخراج الذهب وتأميمها، وستطال ممتلكاته وسيلاحقها مسؤولو الضرائب، وإن أنسب وسيلة لبيع كميات الذهب التي لديه هي عرضها على السفارات، لكونها معفاة من الضرائب، ولديها حصانة دبلوماسية، وبمقدورها الدفع بأي عملة!

وبعد أن استمع صديقنا الدبلوماسي للشرح المستفيض من التاجر الإفريقي قال: نحن هنا في سفارة، لا في وكالة تجارية، وأيضاً القوانين والأعراف الدبلوماسية تمنع قيام السفارات في جميع دول العالم بممارسة الأعمال التجارية... فأرجو المعذرة، مع تقديري لظروفك.

Ad

ولكن الرجل الإفريقي لم يقتنع برد صديقنا الدبلوماسي المهذب، وقال: أنتم الكويتيون كرماء وتساعدون الغير، وخيرات دولتكم عمت سائر الدول الإفريقية، ولي طلب واحد لو تساعدني عليه فلن أنسى هذا المعروف والجميل مادمت حياً. ولكون صديقنا الدبلوماسي معروفاً عنه مساعدة الآخرين، وتقديم الخدمات للمحتاجين بسخاء دون منّة أو مقابل، فقد قال للإفريقي: تفضل، ماذا أستطيع القيام به لمساعدتك؟

فرد الإفريقي على استحياء، متظاهراً بالخجل والتواضع، وقال: أرجو أن أستلف منك فقط مبلغ ١٠٠٠ دولار، لتحويلها لأحد أقاربي في الخارج، لحاجته الماسة، وسوف أعيد لك المبلغ في القريب العاجل، ولثقتي بك سوف أرهن قالب الذهب، الذي يزن ١٠ كيلوغرامات أمانة عندك.

ونتيجة إلحاح الإفريقي قبل صديقنا الدبلوماسي الاحتفاظ بقالب الذهب كأمانة، وأعطاه مبلغ ١٠٠٠ دولار!

وأخذ صديقنا قالب الذهب، ووضعه بداخل درج المكتب وأغلق عليه بالمفتاح، ومضى اليوم الأول والثاني، وتوالت الأسابيع والأشهر، ولم يأتِ الإفريقي لإعادة المبلغ، الذي استلفه، وليأخذ قالب الذهب، الذي رهنه!

وفي كل صباح يفتح صديقنا الدبلوماسي درج مكتبه لمشاهدة قالب الذهب الخالص الذي يزن ١٠ كيلوغرامات ويعيده مرة أخرى، ولم يغره ثمن قالب الذهب، الذي لا يقل عن خمسين ألف دينار، حسب أسعار الذهب في ذلك الوقت. ولطيبة صديقنا الدبلوماسي المتناهية، ظن أنه حدث مكروه للإفريقي، أو أسباب قسرية أخرى حالت دون مجيئه لتسلُّم الأمانة، وأخذ يضرب أخماساً في أسداس، ويفكر للتخلص من هذا القالب بطريقة سليمة، ولم تغره هذه الثروة التي جاءت إليه فجأة!

لذا لم يجد طريقة وسبيلاً إلا بمصارحة السفير بالأمر، وتحدث بكل التفاصيل، وبعد أن استمع السفير في إنصات تام، لبس نظارته الطبية المقعرة، وأخذ يتفحص قالب الذهب. وفجأة... ضحك بصوت عالٍ أدى إلى انتفاض صديقنا الدبلوماسي من مكانه، وقال: لقد خسرت الـ١٠٠٠ دولار، التي استلفها منك الإفريقي، وهذه قطعة حديد مصبوغة باللون الأصفر ولا تساوي دولاراً واحداً!

د. عادل محمد العبدالمغني