تداعت الصور والكلمات والأناشيد والذكريات لتلك اللحظة التي ستبقى تسجل في تاريخ أي وطن عند ولادة جديدة، صورة للفريق الذي أسهم في تأسيس وإطلاق ذاك التجمع لطلبة البحرين، ثم بعدها صور لاجتماعات وأناشيد ورقص جماعي وأغان تراثية ورحلات في حدائق القناطر الخيرية أو جبال لبنان أو على ضفاف دجلة والفرات، أو في شتاء الكويت، ولربما في صقيع كييف وموسكو كلها كانت صوراً مشتركة لفتيات وفتيان في عمر الورد، كثيرٌ منهم كانوا من الحالمين.

بقيت كلمات ذاك النشيد لسنوات بعدها تردد في الشهر الثالث من العام "ذكرى ميلاد اتحادنا ذكرى عزيزة على قلوبنا"، لم يبق الوقع ذاته لتلك اللحظة أو الذكرى، فقد تعددت الطرق وتفرعت إلى مسالك مختلفة، فهي الحياة التي تأخذ كلاً منا إلى مكان، قد يكون الأقرب له أو لها، أو قد يكون القدر قد لعب دوره أو ربما النضج رغم مفاهيمه المتعددة حسب الأمزجة والتبريرات.

Ad

كثيرون بعدها افترقوا كما الأحبة وآخرون ربما ندموا أو ربما محوا تلك اللحظات من حياتهم، وآخرون توقفوا عندها حد الجمود أو التحجر، وهذه كلها ليست صفات تضاف إلى قاموس "الشتائم" أو النقد الذي اعتدناه رغم أنه "لا يفسد للود قضية" كما نكرر كثيرا دون قناعة به أحيانا!!

هو تاريخ كما الكثير مما مر بهذا الوطن أو كل هذه الأوطان، فالاتحادات الطلابية أدت دوراً في مسيرة الشعوب لا الطلاب فقط، كما كل التجمعات الأخرى حسب رأي الخبراء، فهو تاريخ قد يكون بحاجة لتدوين وبحث أكثر بعيدا عن الرهبة من إعادة اللحظة أو وصمة الانتماء لهذه الجبهة أو تلك أو حتى تلك الصفة التي دخلت في خانة المحظور "المعارضة" أو "الموالاة".

في تلك الذكرى لحظات غمست بالبراءة والجمال، على أقله عند بعضنا أو بعضهم، وأخرى شهدت مشاحنات واختلافات في الآراء التي لم تكن خاصة بهذه الفئة من الطلاب بل هي سمة تلك المرحلة عندما كانت الأفكار والمبادئ والأحزاب تتصارع وتتسابق لكسب أكبر عدد من "المريدين"! ولكنها لم تكن كلها أفكاراً ومبادئ وسياسة، بل شملت الكثير من الرومانسية والحب والمساواة بين الرجل والمرأة حتى لو كانت بدائية، وكثيرا ما كان بعضهم وبعضهن يرددها دون فهم أو قناعة، بل تماشيا مع "الموضة"، رغم كل ذلك بقيت مساحة واسعة للحب التي توجت بارتباط كثيرين من القاهرة مروراً ببيروت وبغداد والكويت و... و.

مثيرٌ حقاً أن تكون رواية مثل "شقة الحرية" للجميل غازي القصيبي تطبع وتوزع حتى الآن بنسخها الكثيرة، وما زال الكثيرون يتطلعون لمتعة قراءتها والتعرف على شخوص من طلاب خليجيين عاشوا تلك الحقبة الذهبية في مصر، مثيرٌ لأنها تملك هذه الشعبية فيما يخاف البعض أو لا يحبذ الحديث عن سنوات الدراسة والعمل الطلابي بكل حسناته وسيئاته، كما كل وأي لحظة في التاريخ، بعضها جميل وبعضها بحاجة لرؤيته ضمن تلك اللحظة التاريخية وذاك الزمن.

كانوا جميعا يتراصون قريبين من بعضهم وبعضهن دون أن يكون الشيطان ثالثهم!! يناقشون وقد ترتفع الأصوات أحيانا، وقد تحتدم النقاشات ثم ينفض الاجتماع فيردد بعضهم نسهر هذا المساء في ذاك المقهى أو المطعم المتواضع أم نذهب إلى السينما لمشاهدة فيلم رومانسي جميل بمشاهد للحب العفيف الذي تمثلت به المرحلة؟

كثيرٌ من الحكايات بقيت محكية، وقد يكون من المفيد أن يدون التاريخ الشفهي لها حتى لو اختلفت بين شخص وآخر.. هي التي عرفت النضال الطلابي والسياسي ليس على صعيد البحرين والخليج فقط، بل على مساحات الوطن العربي الواسع، وهي في مجملها متشابهة ومتداخلة، لا تزال تحتفظ بالصور وتجمع الفيديوهات وتردد أغاني المرحلة. هي ترسمها لحفيدها ربما حتى "لا ننسى" في زحمة أحداث المرحلة والخوف أو الهيبة من إعادة التذكير بها.

لا يمكن أن يمر الشهر الثالث من كل عام دون أن يطرز بكثير من المشاهد والذكريات هنا في مدن وقرى هذا الوطن الصغير وهناك في كثير من المدن التي احتضنت أبناءه وبناته وفرحت بهم وبهن، كثيرٌ منهم بقي متمسكاً بالحلم حتى اللحظة رغم اختلاف تلاوينه وآخرون رموه بعيداً كالخوف من الوباء في حين بقي ذاك الواقف عند حافة شاطئ الخليج ينتظر أن يعيده إلى الحياة من قاع مياه دلمون، حيث كانت زهرة جلجامش، هي ذكرى لكل من مر بها وتجربة تستحق أن تحكى رغم اختلاف الروايات.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

د. خولة مطر